الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        اجتمع عليه عقوبات آدميين ، كحد قذف وقصاص عضو وقصاص نفس ، فإن حضر المستحقون وطلبوا حقوقهم جميعا ، جلد ، ثم قطع ، ثم قتل ، ويبادر بالقتل بعد القطع ، ولا يبادر بالقطع بعد الجلد إن كان مستحق القتل غائبا ؛ لأنه قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاصه ، وإن كان حاضرا وقال : عجلوا القطع وأنا أبادر بالقتل بعد القطع ، فوجهان ، أحدهما : يبادر ؛ لأن التأخير كان حقه وقد رضي بالتقديم . وأصحهما : المنع خوفا من هلاكه بالموالاة ، ورأى الإمام تخصيص الوجهين بمن خيف موته بالموالاة بحيث يتعذر قصاص النفس لانتهائه إلى حركة [ ص: 164 ] المذبوح ، ورأى الجزم بالمبادرة إذا أمكن استيفاء القصاص بعد القطع ، أما إذا لم يجتمعوا على الطلب ، فإن أخر مستحق النفس حقه ، جلد ، فإذا برأ ، قطع ، وإن أخر مستحق الطرف حقه ، جلد ، ويتعذر القتل لحق مستحق الطرف ، وعلى مستحق النفس الصبر حتى يستوفي مستحق الطرف حقه ، قال الغزالي : ولو مكن مستحق النفس من القتل ، وقيل لمستحق الطرف : بادر وإلا ضاع حقك لفوات محله ، لم يكن بعيدا ، ولو بادر مستحق النفس فقتله ، كان مستوفيا حقه ، ورجع مستحق الطرف إلى الدية ، ولو أخر مستحق الجلد حقه ، فقياس ما سبق أن يصبر الآخران ، وإذا اجتمع عليه حدود قذف لجماعة ، حد لكل واحد حدا ، ولا يوالى بل يمهل بعد كل حد حتى يبرأ ، هكذا ذكره البغوي وغيره ، لكنه سبق في القصاص أنه يوالى بين قطع الأطراف قصاصا ، وقياسه أن يوالى بين الحدود ، وذكروا تفريعا على الأول الوجهين فيما لو وجب على عبد حدان لقذف شخصين ، هل يوالى ؟ أصحهما عند البغوي : لا ؛ لأنهما حدان ، والثاني : نعم ؛ لأنهما كحد حر ، قال الروياني : هذا أقرب إلى المذهب ، وأما ترتيب حدود القذف فينبغي أن يقال : إن قذفهم مرتبا ، حد للأول فالأول ، وإن قذفهم بكلمة وقلنا بالأظهر : إنه يتعدد الحد ، أقرع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        اجتمع عليه حدود لله تعالى ، بأن شرب وزنى وهو بكر ، وسرق ، ولزمه قتل بردة ، قدم الأخف فالأخف ، وتجب رعاية هذا الترتيب والإمهال سعيا في إقامة الجميع ، وأخفها حد الشرب ، ثم يمهل حتى يبرأ ، ثم يجلد للزنى ، ويمهل ، ثم يقطع ، فإذا لم يبق إلا القتل ، قتل ولم يمهل ، وحكى أبو بكر الطوسي وجها : أنه إذا كان فيها قتل يوالى [ ص: 165 ] بلا إمهال ، والصحيح الأول ، وبه قطع الجمهور ، ولو اجتمع معها أخذ مال في محاربة ، قطعت يده ورجله بعد جلد الزنى ، وهل يوالى بين قطع اليد والرجل أم يؤخر قطع الرجل حتى تندمل اليد ؟ وجهان ، أحدهما : يؤخر ؛ لأن اليد مقطوعة عن السرقة ، والرجل عن المحاربة ولا يوالى بين حدين ، وأصحهما وهو المنصوص : يوالى ؛ لأن اليد تقع عن المحاربة والسرقة ، فصار كما لو انفردت المحاربة ، ولو اجتمعت عقوبات لله تعالى ولآدمي ، بأن انضم إلى هذه العقوبات حد قذف ، قدم حد القذف على حد الزنى ، نص عليه ، واختلفوا لم قدم ؟ فقال أبو إسحاق وجماعة : لأنه حق آدمي ، وقال ابن أبي هريرة : لأنه أخف ، والأول أصح عند الأصحاب ، وفيما يقدم من حد الشرب والقذف وجهان بناء على المعنيين ، ويجريان في حد الزنى وقصاص الطرف والإمهال بعد كل عقوبة إلى الاندمال على ما ذكرنا ، ولو كان الواجب بدل قتل الردة قتل قصاص ، فالقول في الترتيب والإمهال كذلك ، ولو اجتمع الرجم للزنى وقتل قصاص ، فهل يقتل رجما بإذن الولي ليتأدى الحقان ، أم يسلم إلى الولي ليقتله قصاصا ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني . ولو كان الواجب قتل محاربة ، فهل يجب التفريق بين الحدود المقامة قبل القتل ؟ وجهان ، أحدهما : لا ؛ لأنه متحتم القتل ، فلا معنى للإمهال بخلاف قتل الردة والقصاص ، فإنه يتوقع الإسلام والعفو ، وأصحهما : نعم ؛ لأنه قد يموت بالموالاة ، فتفوت سائر الحدود ، ولو اجتمع قتل محاربة مع قصاص في غير محاربة ، نظر إن سبق قتل المحاربة ، قتل حدا ، ويعدل صاحب القصاص إلى الدية ، وإن سبق قتل القصاص ، خير الولي فيه ، فإن عفا ، قتل وصلب للمحاربة ، وإن اقتص ، عدل لقتل المحاربة إلى الدية ، وهل يصلب ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا مات المحارب قبل قتله ، ولو [ ص: 166 ] سرق ثم قتل في المحاربة ، فهل يقطع للسرقة ويقتل للمحاربة ، أم يقتصر على القتل والصلب ، ويندرج حد السرقة في حد المحاربة ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من زنى مرارا وهو بكر ، حد لها حدا واحدا ، وكذا لو سرق ، أو شرب مرارا ، وهل يقال : تجب حدود ثم تعود إلى حد واحد أم لا يجب إلا حد ، وتجعل الزنيات كالحركات في زنية واحدة ؟ ذكروا فيه احتمالين ، ولو زنى أو شرب فأقيم عليه الحد ، ثم زنى أو شرب ، أقيم عليه حد آخر ، فإن لم يبرأ من الأول ، أمهل حتى يبرأ ، ولو أقيم عليه بعض الحد فارتكب الجريمة ثانيا ، دخل الباقي في الحد الثاني ، وإذا زنى فجلد ، ثم زنى قبل التغريب جلد ثانيا وكفاه تغريب واحد ، ولو جلد خمسين ، فزنى ثانيا ، جلد مائة وغرب ودخل في المائة الخمسون الباقية ، ولو زنى وهو بكر ، ثم زنى قبل أن يحد وقد أحصن ، فهل يكتفى بالرجم ويدخل فيه الجلد أم يجمع بينهما ؟ وجهان ، أصحهما عند الإمام والغزالي : الأول ، وأصحهما عند البغوي وغيره : الثاني ، لاختلاف العقوبتين ، وعلى هذا فهل يجلد مائة ويغرب عاما ثم يرجم ، أم يجلد ويرجم ، ويدخل التغريب في الرجم ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني . ولو زنى عبد ، فعتق قبل الحد ، وزنى ثانيا ، فإن كان بكرا ، جلد مائة وغرب عاما ، وإن كان محصنا ، جلد خمسين ، ثم رجم ، هكذا أطلقه البغوي ، ويشبه أن يكون على الخلاف فيمن زنى وهو بكر ، ثم زنى وهو محصن . ولو زنى ذمي محصن ، ثم نقض العهد واسترق ، فزنى ثانيا ، ففي دخول الجلد في الرجم الوجهان ، قال البغوي : الأصح : المنع ، فيجلد خمسين ثم يرجم ، وإن قلنا : بتغريب العبد ، ففي اندراج التغريب في الرجم الوجهان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 167 ] فصل

                                                                                                                                                                        لا يثبت قطع الطريق إلا بشهادة رجلين ويشترط في الشهادة التفصيل وتعيين قاطع الطريق ومن قتله أو أخذ ماله ، وتقاس صوره بما سبق في الشهادة على السرقة ، ولو شهد اثنان من الرفقة ، نظر إن لم يتعرضا لقصد المشهود عليه نفسا ومالا ، قبلت شهادتهما ، وليس على القاضي أن يبحث عنهما هل هما من الرفقة أم لا ، فإن بحث ، فلهما أن لا يجيبا ، وإن لم يثبتا على الشهادة وإن قالا : قطع هذا وهؤلاء علينا الطريق ، فأخذوا مالنا ومال رفقتنا ، لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما ولا في حق غيرهما ، وقيل : في حق غيرهما قولان ، والمذهب الأول ؛ لأنهما صارا عدوين ، قال الماسرجسي وغيره : لو شهد رجلان بوصية لهما فيها نصيب أو إشراف ، لم تقبل في شيء ، وإن قالا : نشهد بها سوى ما يتعلق بنا من المال والإشراف ، قبلت شهادتهما .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        يحسم موضع القطع من قاطع الطريق كما سبق في السارق ، ويجوز أن تحسم اليد ، ثم تقطع الرجل ، وأن تقطعا جميعا ، ثم تحسما ، قال العبادي في " الرقم " : إن قلنا : إن قتل قاطع الطريق يراعى فيه معنى القصاص ، لزمه الكفارة ، وإن قلنا : حد محض ، فلا كفارة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية