الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن في قوله : ( وإن الذين اختلفوا فيه ) قولين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم هم النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه ، إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة : النسطورية ، والملكانية ، واليعقوبية .

                                                                                                                                                                                                                                            أما النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته ، وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول ، قالوا : لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف منساب في هذا البدن ، وإما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن ، فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل ، وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى - عليه السلام - فالقتل ما ورد عليه ، لا يقال : فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص ؟ لأنا نقول : إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الإشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة ، والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن ، ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السماوات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك ، ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة آدم - عليه السلام - إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين ، فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى - عليه السلام - بهذه الحالة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الملكانية فقالوا : القتل والصلب وصلا إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة . وقالت اليعقوبية : القتل والصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين ، فهذا هو شرح مذاهب النصارى في هذا الباب ، وهو المراد من قوله : ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : إن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقي على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى - عليه السلام - ، فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال السدي : إن اليهود حبسوا عيسى مع عشر من [ ص: 81 ] الحواريين في بيت ، فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله ، فألقى الله شبه عيسى عليه ورفع إلى السماء ، فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى - عليه السلام - ، ثم قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان صاحبنا فأين عيسى ؟ فذلك اختلافهم فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا : العمل بالقياس اتباع للظن ، واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم ، ألا ترى أنه تعالى وصف اليهود والنصارى ههنا في معرض الذم بهذا فقال : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار : ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) [الأنعام : 116] وقال في آية أخرى ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) [يونس : 36] وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع للظن ، فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوما لا مظنونا ، وهذا الكلام له غور وفيه بحث .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية