الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

تخطيط وعمارة المدن الإسلامية

خالد محمد مصطفى عزب

تمهيد

ارتبطت دراسة العمارة الإسلامية في عصرنا بعلم الآثار الإسلامية، الذي نشأ على يد المستشرقين وهواة الآثار الغربيين، ومن ثم تأثر هـذا العلم بمناهجهم وأسلوبهم في التفكير، وانعكس ذلك على طريقة تناول العمائر الإسلامية الباقية، بالوصف والتحليل.

درس المستشرقون العمارة الإسلامية دراسة وصفية، تقوم على وصف الشكل المعماري وصفا دقيقا، فإذا أنت شاهدت واجهة منشأة وجدتها رائعة تحوي زخارف وعقودا، وبابا رئيسا وآخر فرعيا.. كل هـذا في تناسق معماري تام.. واتبع هـذا المنهج العديد من مدارس الآثار الإسلامية، في شتى دول العالم الإسلامي، التي نستطيع أن نسمي معظمها: " مدارس التقليد والجمود " ، حيث التفكير والإبداع المنهجي لديها يكاد يكون محدودا، فالاقتصار على الوصف هـو أهم شيء.. وترى الأثر المعماري وقد انتزع ليكون وحدة قائمة بذاته، لا رابط بينه وبين ثقافة المجتمع، ولا بينه وبين المنشآت المحيطة به، ولا بينه وبين روح العصر، فكأن هـذا الأثر وحدة تخضع للبحث المادي الجاف.. وهذا النوع من الدراسات نسميه: " الدراسات الوصفية للشكل المعماري " . [ ص: 40 ]

وجرى كثير من الأثريين خلف المستشرق " كريسويل " في منهج تأصيل العناصر الأثرية، ففي كتابه: " العمارة الإسلامية المبكرة " ، يعبر بأسلوب حاقد ملتو عن مبنى قبة الصخرة، وما يشتمل عليه من زخارف، وأن به 22% تأثيرات رومانية، و22% تأثيرات بيزنطية، و55% تأثيرات سورية مسيحية، والباقي وهو 1% غير محدد الهوية..

ويبدو ما ذكره " كريسويل " في كتابه: " العمارة الإسلامية المبكرة " ، ذا مظهر علمي بريء، ولكن إذا تأملنا بدقة سنجده يقول: إن البناء لا يمت للمسلمين بصلة سوى استخدامهم له، فهم مقلدون غير مبتكرين . وقاد هـذا الطرح العديد من علماء الآثار إلى الاستغراق في تأصيل العناصر المعمارية والفنية، وسطروا صفحات في ذلك، حتى صرنا ندخل في المنهج الاستغراقي التأصيلي، دون البحث عن المضمون في عمارة المسلمين، وكيف يمكن أن يؤثر هـذا المضمون في العمارة.

وكلا المنهجين، الوصفي للشكل المعماري، والاستغراقي الساعي إلى تحليل العناصر المعمارية والفنية لإثبات أصولها، كلاهما يشكل جزئية بسيطة جدا في علم الآثار الإسلامية، الذي يتطلب جهدا لإعادة صياغته، حتى يكون جزءا من المشروع الحضاري الإسلامي، وفصلا في علم العمران في هـذا المشروع.

ومن الملاحظ أنه عند دراسة تاريخ العمارة الإسلامية، [ ص: 41 ] يتم التركيز على المعالم التاريخية، كقصور الحمراء وتاج محل وغيرها من المعالم التي بنيت لترمز إلى عظمة حاكم ما أو دولة ما، أو تحكي تاريخ حضارة مضت، فهي بعظمة مظهرها وحسن بنائها، تحمل لنا وللأجيال القادمة رسائل عن تلك الحضارات، لذلك فهي إنما بنيت لتكون مبان " فوق اعتيادية " -إن صح التعبير- مع العلم أن غالبية المباني في تلك العصور مبان عادية شيدها أناس بسطاء.

وقد أدت دراسة المعالم التاريخية من قبل المهندسين المعماريين والمخططين، إلى استنباط أسس للعمارة الإسلامية، منها أن البيئة العمرانية الإسلامية في مجملها، شيدت من قبل مصممين، سواء كانوا معماريين أو مخططين والواقع يقرر أن البيئة العمرانية الإسلامية لم تعتمد في نشأتها على تخصص العمارة أو التخطيط فقط، ولكن على أسس وضعتها الشريعة أيضا [1] .

وهذه الأسس أشبه ما تكون اليوم بقوانين المباني، مع ملاحظة أن هـناك فروقا جوهرية بين الاثنين، فأحكام البنيان في الفقه الإسلامي، كان يحفظها كل مسلم، ويقوم بتنفيذها تلقائيا، دونما حاجة إلى ضابط من السلطات.. فالبيئة العمرانية صيغت وفق تراكم الخبرات، جيلا بعد جيل، فضلا عن العرف، إضافة إلى ما قرره الفقهاء [ ص: 42 ] وفق قواعد الشريعة، وهو ما سوف نفصله فيما بعد.. أما قانون المباني المعاصر، فهو يصاغ في المكاتب وسط جو مكيف، بعيدا عن المستخدمين، وبالتالي تفرض السلطات على الأهالي أنماطا من القوانين لا تراعي العرف المستقر ولا الخبرة ولا البيئة المحلية، ومن الطبيعي عندئذ أن نرى تجاوزات من قبل من تفرض عليهم هـذه القوانين في سبيل تحقيق ما يبغونه من العمارة، ولذا فهناك فارق جوهري بين أحكام البنيان في الفقه الإسلامي، التي تميز بالمرونة وقابلية الاستجابة لاحتياجات البيئة العمرانية، وبين قوانين البناء المعاصرة التي غالبا ما تكون جامدة.

ويمكن أن نتساءل هـنا: إلى أي مدى يمكن أن تعبر العمارة عن ثقافة عصرها ؟ فالعمارة ليست جدرانا مشيدة عليها زخارف ننظر إليها بإعجاب فقط، ولكنها بالدرجة الأولى تعبير عن روح العصر، فإذا فصلنا هـذه الروح عن المبنى المشيد، فكأننا نقرأ جماليات جدران صماء، وهذا ما يتم حاليا عند دراسة علم الآثار الإسلامية.

وفي عصرنا الحاضر، تعبر العمارة عن ثقافة العصر.. وتعكس بعض اختيارات أنماط المبانى المعاصرة، في عالمنا العربي والإسلامي، التوجهات الثقافية التي تكمن وراءها من بعث الجاهليات والوثنيات التي كانت سمة تاريخية لبعض العصور، مثل الفينيقية والكلدانية [ ص: 43 ] وغيرها، باسم الوطنية تارة، وباسم إحياء التراث الشعبي تارة أخرى، وأحيانا تقليدا ومحاكاة للفنون الرومانية واليونانية، عدا عن تقليد الأنماط الحضارية الغربية للمدينة المعاصرة.

فالعلاقة بين العمارة وثقافة وفكر العصر الذي شيدت فيه، مترسخة.. فهي صورة مادية ماثلة للعيان لهذه الثقافة وهذا الفكر.. وينطبق ذلك على العمارة الإسلامية، فهي تعبير عن ثقافة وفكر عصرها، أو هـي روح عصرها وإن كانت تحتاج لمن يقرؤها وفقا لأبجديات عصرها.. وهذا الفكر صيغ عبر قرون طويلة حتى بلغ أوج نضجه في العصر العثماني، وهو أمر لم يلق أي رعاية من ذي قبل من جانب الباحثين، ويغيب عن معظم الباحثين أن لهذا الفكر مصادر بعضها بين أيديهم، وبعضها بعيد عن فكرهم وثقافتهم، نتيجة للتكوين الثقافي للأجيال المعاصرة.

ويأتي في مقدمة هـذه المصادر، المصادر الفقهية.. ولما كان معظم دارسي العمارة يتعلمون في كليات وضع منهجها على النمط الغربي بعيدا عن أي مصدر إسلامي، وكذلك دارسي تاريخ العمارة في أقسام الآثار بالجامعات العربية والإسلامية، فمن الطبيعي أن يكون هـذا الفقه، بعيدا عن أيديهم، فضلا عن إهمال الفقهاء المعاصرين التعريف بالتراث الفقهي في مجال العمران. ومن أقدم [ ص: 44 ] ما كتب في فقه العمارة الإسلامية، كتاب الفقيه المصري عبد الله ابن الحكم [ ت: 214هـ ـ829م] المسمى: " كتاب البنيان " ، والذي لم تصلنا نسخ منه [2] .. ومن أبرز الكتب التي نشرت في فقه البنيان، كتاب الفقيه التونسي المالكي ابن الرامي : " الإعلان بأحكام البنيان " [3] .

ونشأ نتيجة للنزاعات بيع المسلمين بعضهم بعضا في مسائل البنيان، كتابات تتناول هـذه النزاعات وحلولها في ضوء الفقه الإسلامي، وهو ما عولج بتوسع في فتاوى أو نوازل أهل المغرب، ونرى له صدى كذلك في رسائل أخرى ألفت مستقلة [4] هـذا النوع من التنازع، يكشف عن محدودية دور السلطات في مجال التخطيط العمراني للمدن، وهو دور اقتصر فقط على تخطيط الشوارع الرئيسة، وتنظيم الأسواق.

كما يكشف عن أن الاحتكاك بين المسلمين أو أفراد المجتمع المسلم يولد موادا لفقه البنيان، ويلمح ذلك في سجلات المحاكم [ ص: 45 ] الشرعية العثمانية.. وهنا نرى مجالات واسعة لتطبيق علم أصول الفقه على حركة العمران في المجتمع، من استخدام للقياس والاستحسان والاستنباط وغيرها من مصادر التشريع، بل يمكننا نرى أحكاما غير مسبوقة في هـذه السجلات، على سبيل الاجتهاد من قبل القضاة الشرعيين.

والمصدر الثاني هـو الوقفيات، فمؤسسة الوقف التي تعتبر من أبرز ما أنتجته الأمة من خلال مشروعها الحضاري، سجلت لنا كل ما يتعلق بها من أملاك وكيفية التصرف فيها، في وقفيات تصف المنشآت المعمارية وصفا دقيقا، يتخلله مصطلحات فقهية، يستطيع من يدرسها بعمق، أن يربط بين الفقه والعمارة ربطا دقيقا، بل تعبر هـذه المصطلحات أحيانا عن الوظيفة الدقيقة للمكان. وقد وصلتنا آلاف الوقفيات من مصر والمغرب وبلاد الشام وتركيا وشرق اوربا ووسط آسيا، وهذا المصدر الثالث هـو المصادر التاريخية، واشهرها كتاب: " المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار " ، لأشهر مؤرخي مصر، المقريزي ، وكذلك ما كتبه ابن عساكر عن تاريخ دمشق، والخطيب البغدادي عن تاريخ بغداد، ومثل هـذ المصادر وغيرها تكمل لنا مع المصادر السابقة رؤيتنا للمدينة الإسلامية وعمارتها. [ ص: 46 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية