الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] كتاب النكاح

ليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ثم تستمر في الجنة إلا النكاح والإيمان . ( هو ) عند الفقهاء ( عقد يفيد ملك المتعة ) أي حل استمتاع الرجل - [ ص: 4 ] من امرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي فخرج الذكر والخنثى المشكل والوثنية لجواز ذكورته [ ص: 5 ] والمحارم والجنية وإنسان الماء لاختلاف الجنس وأجاز الحسن نكاح الجنية بشهود قنية ( قصدا ) خرج ما يفيد الحل ضمنا ، كشراء أمة للتسري ( و ) عند أهل الأصول واللغة ( هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد ) فحيث جاء في الكتاب أو السنة مجردا عن القرائن يراد به الوطء كما في - { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } - فتحرم مزنية الأب على الابن بخلاف - { حتى تنكح زوجا غيره } - [ ص: 6 ] لإسناده إليها والمتصور منها العقد لا الوطء إلا مجازا .

[ ص: 3 ]

التالي السابق


[ ص: 3 ] كتاب النكاح

ذكره عقب العبادات الأربع أركان الدين ; لأنه بالنسبة إليها كالبسيط إلى المركب ; لأنه عبادة من وجه معاملة من وجه . وقدمه على الجهاد ، وإن اشتركا في أن كلا منهما سبب لوجود المسلم والإسلام ; لأن ما يحصل بأنكحة أفراد المسلمين أضعاف ما يحصل بالقتال ، فإن الغالب في الجهاد حصول القتل والذمة على أن في كونه سببا لوجود المسلم تسامحا نظرا إلى أن تجدد الصفة بمنزلة تجدد الذات ، وكذا على العتق والوقف والأضحية ، وإن كانت عبادات أيضا لأنه أقرب إلى الأركان الأربع ، حتى قالوا إن الاشتغال به أفضل من التخلي لنوافل العبادات أي الاشتغال به ، وما يشتمل عليه من القيام بمصالحه ، وإعفاف النفس عن الحرام وتربية الولد ونحو ذلك ( قوله : ليس لنا عبادة إلخ ) كذا في الأشباه وفيه نظر أما أولا فإن كونه عبادة في الدنيا إنما هو لكونه سببا لكثرة المسلمين ولما فيه من الإعفاف ونحوه مما ذكرناه وهذا مفقود في الجنة ، بل ورد { إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد } لكن ورد في حديث آخر { المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي } وهذا أولى لقول الترمذي إنه حديث حسن غريب .

وأما ثانيا فلأن الذكر والشكر في الجنة أكثر منهما في الدنيا ; لأن حال العبد يصير كحال الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون غايته أن هذه العبادة ليست بتكليف بل هي مقتضى الطبع ; لأن خدمة الملوك لذة وشرف ، وتزداد بالقرب ، وتمامه في حاشية الحموي على الأشباه . ( قوله : عقد ) العقد مجموع إيجاب أحد المتكلمين مع قبول الآخر أو كلام الواحد القائم مقامهما أعني متولي الطرفين بحر وفيه كلام يأتي . ( قوله : أي حل استمتاع الرجل ) أي المراد أنه عقد يفيد حكمه بحسب الوضع الشرعي . وفي البدائع أن من أحكامه ملك المتعة وهو اختصاص [ ص: 4 ] الزوج بمنافع بضعها وسائر أعضائها استمتاعا أو ملك الذات والنفس في حق التمتع على اختلاف مشايخنا في ذلك . ا هـ . بحر وعزا الدبوسي المعنى الأول إلى الشافعي ، لكن كلام المصنف كالكنز صريح في اختياره على أن الظاهر كما في النهر أن الخلاف لفظي ، لقول الدبوسي إن هذا الملك ليس حقيقيا بل في حكمه في حق تحليل الوطء دون ما سواه من الأحكام التي لا تتصل بحق الزوجية . ا هـ . فعلى القول الذي عزاه الدبوسي إلى أصحابنا من أنه ملك الذات ليس ملكا للذات حقيقة بل ملك التمتع بها : أي اختصاص الزوج به كما عبر به في البدائع ، وهو المراد من القول بأنه ملك المتعة ، وبه ظهر أن تفسير الملك هنا بالاختصاص كما عبر في البدائع أولى من تفسيره بالحل تبعا للبحر لأن الاختصاص أقرب إلى معنى الملك لأن الملك نوع منه بخلاف الحل لأنه لازم لملك المتعة وهو لازم لاختصاصها بالزوج شرعا أيضا على أن ملك كل شيء بحسبه ، فملك الزوج المتعة بالعقد ملك شرعي كملك المستأجر المنفعة بمن استأجره للخدمة مثلا ولا يرد عليه قوله في البحر : إن المراد بالملك الحل لا الملك الشرعي لأن المنكوحة لو وطئت بشبهة فمهرها لها ولو ملك الانتفاع ببضعها حقيقة لكان بدله له . ا هـ . لأن ملكه الانتفاع بالبضع حقيقة لا يستلزم ملكه البدل ، وإنما يستلزمه ملك نفس البضع كما لو وطئت أمته فإن العقد له لملكه نفس البضع بخلاف الزوج فافهم .

[ تنبيه ]

كلام الشارح والبدائع يشير إلى أن الحق في التمتع للرجل لا للمرأة كما ذكره السيد أبو السعود في حواشي مسكين قال : يتفرع عليه ما ذكره الأبياري شارح الكنز في شرحه للجامع الصغير في شرح قوله عليه الصلاة والسلام { احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك } من أن للزوج أن ينظر إلى فرج زوجته وحلقة دبرها ، بخلافها حيث لا تنظر إليه إذا منعها من النظر . ا هـ . ونقله ط وأقره والظاهر أن المراد ليس لها إجبار على ذلك لا بمعنى أنه لا يحل لها إذا منعها منه ; لأن من أحكام النكاح حل استمتاع كل منهما بالآخر ، نعم له وطؤها جبرا إذا امتنعت بلا مانع شرعي وليس لها إجباره على الوطء بعدما وطئها مرة ، وإن وجب عليه ديانة أحيانا على ما سيأتي تأمل .

( قوله : من امرأة إلخ ) من ابتدائية والأولى أن يقول بامرأة والمراد بها المحققة أنوثتها بقرينة الاحتراز بها عن بالخنثى ، وهذا بيان لمحلية العقد قال في البحر بعد نقله عن الفتح : إن محليته الأنثى والأولى أن يقال : إن محليته أنثى محققة من بنات آدم ليست من المحرمات وفي العناية محله امرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي فخرج الذكر للذكر والخنثى مطلقا والجنية للإنسي ، و ما كان من النساء محرما على التأبيد كالمحارم . ا هـ . وبه ظهر أن المراد بالنكاح في قوله لم يمنع من نكاحها العقد لا الوطء ; لأن المراد بيان محلية العقد ، ولذا احترز بالمانع الشرعي عن المحارم ، فالمراد منه المحرمية بنسب أو سبب كالمصاهرة والرضاع ، وأما نحو الحيض والنفاس والإحرام والظهار قبل التكفير فهو مانع من حل الوطء لا من محلية العقد فافهم .

( قوله : فخرج الذكر والخنثى المشكل ) أي أن إيراد العقد عليهما لا يفيد ملك استمتاع الرجل بهما لعدم محليتهما له ، وكذا على الخنثى لامرأة أو لمثله ، ففي البحر عن الزيلعي في كتاب الخنثى : لو زوجه أبوه أو مولاه امرأة أو رجلا لا يحكم بصحته حتى يتبين حاله أنه رجل أو امرأة فإذا ظهر أنه خلاف ما زوج به تبين أن العقد كان صحيحا ، وإلا فباطل ; لعدم مصادفة المحل وكذا إذا زوج خنثى من خنثى آخر لا يحكم بصحة النكاح حتى يظهر أن أحدهما ذكر والآخر أنثى . ا هـ .

فلو قال الشارح والخنثى المشكل مطلقا لشمل الصور الثلاث لكنه اقتصر على إفادة بعض أحكامه وليس فيه إجمال ، فافهم . ( قوله : والوثنية ) ساقط من بعض النسخ ووجد في بعضها قبل قوله والخنثى والأولى ذكرها بعده لخروجها بالمانع الشرعي وعبر بها تبعا لتعبير المصنف في فصل المحرمات الأولى التعبير بالمشركة كما عبر به الشارح [ ص: 5 ] هناك ( قوله : والمحارم ) هذا خارج بالمانع الشرعي أيضا وكذا قوله : والجنية ، وإنسان الماء بقرينة التعليل باختلاف الجنس لأن قوله تعالى { - والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا - } بين المراد من قوله { - فانكحوا ما طاب لكم من النساء - } وهو الأنثى من بنات آدم فلا يثبت حل غيرها بلا دليل ولأن الجن يتشكلون بصور شتى فقد يكون ذكرا تشكل بشكل أنثى ، وما قيل من أن من سأل عن جواز التزوج بها يصفع لجهله وحماقته لعدم تصور ذلك بعيد ; لأن التصور ممكن لأن تشكلهم ثابت بالأحاديث والآثار والحكايات الكثيرة ولذا ثبت النهي عن قتل بعض الحيات كما مر في مكروهات الصلاة على أن عدم تصور ذلك لا يدل على حماقة السائل كما قاله في الأشباه وقال ألا ترى أن أبا الليث ذكر في فتاويه أن الكفار لو تترسوا بنبي من الأنبياء هل يرمى فقال يسأل ذلك النبي ولا يتصور ذلك بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم ولكن أجاب على تقدير التصور كذا هذا . ا هـ . وتمام ذلك في رسالتنا المسماة [ سل الحسام الهندي لنصرة سيدنا خالد النقشبندي ] .

[ تنبيه ]

في الأشباه عن السراجية : لا تجوز المناكحة بين بني آدم والجن ، وإنسان الماء ; لاختلاف الجنس . ا هـ . ومفاد المفاعلة أنه لا يجوز للجني أن يتزوج إنسية أيضا وهو مفاد التعليل أيضا . ( قوله : وأجاز الحسن أي البصري رضي الله عنه ) كما في البحر والأولى التقييد به لإخراج الحسن بن زياد تلميذ الإمام رضي الله عنه لأنه يتوهم من إطلاقه هنا أنه رواية في المذهب ، وليس كذلك ط لكنه نقل بعده عن شرح المنتقى عن زواهر الجواهر الأصح أنه لا يصح نكاح آدمي جنية كعكسه لاختلاف الجنس فكانوا كبقية الحيوانات . ا هـ . ويحتمل أن يكون مقابل الأصح قول الحسن المذكور تأمل . ( قوله : قصدا ) حال من الضمير يفيد وقوع المصدر حالا ، وإن كثر سماعي ط ( قوله : كشراء أمة ) فإن المقصود فيه ملك الرقبة وحل الاستمتاع ضمني ، ولذا تخلف في شراء المحرمة نسبا أو رضاعا أو اشتراكا ح ( قوله : للتسري ) خصه بالذكر لأنه لو اشتراها لا للتسري كان حل الاستمتاع ضمنيا بالأولى ولو قال ولو للتسري لكان أظهر وكلام البحر يدل عليه حيث قال : وملك المتعة ثابت ضمنا ، وإن قصده المشتري . ح ( قوله : وعند أهل الأصول واللغة إلخ ) حاصله : أن ما قدمه المصنف معنى عرفي للفقهاء ، وما ذكره معناه شرعا ولغة ; لأن أهل الأصول يبحثون عن معنى النصوص الشرعية ، فلا تنافي بين كلامي المصنف قال في البحر قد تساوى في هذا المعنى اللغة والشرع ، أفاده ط ( قوله : مجاز في العقد ) وقيل بالعكس ونسبه الأصوليون إلى الشافعي رضي الله عنه وقيل مشترك لفظي فيهما وقيل موضع للضم الصادق بالعقد والوطء ، فهو مشترك معنوي وبه صرح مشايخنا أيضا بحر . ا هـ .

ح والصحيح أنه حقيقة في الوطء كما في شرح التحرير ( قوله : مجردا عن القرائن ) أي محتملا للمعنى الحقيقي والمجازي بلا مرجح خارج وقوله : يراد الوطء أي ; لأن المجاز خلف عن الحقيقة فترجح عليه في نفسها . ( قوله : فتحرم مزنية الأب على الابن ) أي على فروعه فتكون حرمتها عليهم ثابتة بالنص ، وأما حرمة التي عقد عليها عقدا صحيحا عليهم فبالإجماع ولو قال لزوجته إن نكحتك فأنت طالق تعلق بالوطء وكذا لو أبانها قبل الوطء ثم تزوجها تطلق به لا بالعقد بخلاف الأجنبية فيتعلق بالعقد ; لأن وطأها لما حرم عليه شرعا كانت الحقيقة مهجورة فتعين المجاز كذا في البحر والتحرير وشرحه .

( قوله : بخلاف ) حال من ما الموصولة في قوله كما وقال [ ص: 6 ] ح من ولا تنكحوا أي حال كونه مخالفا لقوله تعالى { حتى تنكح } حيث لم يرد به الوطء بل أريد العقد لعدم تجرده عن القرائن بل وجدت فيه قرينة ، وهي استحالة الوطء منها ; لأن الوطء فعل وهي منفعلة لا فاعلة وهو معنى قوله والمتصور إلخ ( قوله : ; لإسناده إليها ) علة لما استفيد من المقام من أن المراد العقد ، وأما اشتراط وطء المحل فمأخوذ من حديث العسيلة ط ( قوله : إلا مجازا ) قد يقال إذا كان لا انفكاك عن المجاز عن التقديرين فما المرجح لأحدهما على الآخر . ا هـ .

ح يعني أنه إن أريد بالنكاح في الآية الوطء كان مجازا عقليا ; لعدم تصور الفعل منها ، وإن أريد به العقد كان مجازا لغويا ; لأنه حقيقة الوطء فحمل الآية على أحدهما ترجيح بلا مرجح بل قد يقال إن حملها على الوطء أنسب بالواقع ، فإن المطلق ثلاثا لا تحل بدون وطء المحلل ، اللهم إلا أن يقال المرجح كثرة الاستعمال ط .

أقول : الظاهر أنه لا مانع هنا من إرادة كل منهما لكن لما كان النزاع في أن النكاح حقيقة في الوطء أو في العقد وكان الراجح عندنا الأول قالوا إنه في هذه الآية مجاز لغوي بمعنى العقد ; لكونه أصرح في الرد على القائل بأنه حقيقة فيه ، ولو قيل إنه مجاز عقلي في الإسناد لصح أيضا ، كما يصح في قولك جرى النهر أن تجعله من المجاز في الإسناد ولكن المشهور أنه مجاز لغوي بعلاقة الحالية والمحلية على أنه ليس في كلام الشارح ما يمنع ذلك ; لأن قوله : والمتصور منها العقد لا الوطء إلا مجازا يمكن حمله أيضا على أنه مجاز في الإسناد بقرينة قوله لإسناده إليها أي أنه من إسناد الشيء إلى غير من هو له وقوله : والمتصور إلخ بيان ; لكون إسناده إليها غير حقيقي فافهم .




الخدمات العلمية