الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الخامسة : النكبات : هي التي تطرأ عند الرمي وتهوشه ، وذلك يعم شرط القرع والخسق وغيرهما ، والأصل أن السهم متى وقع مباعدا تباعدا مفرطا إما مقصرا عن الغرض ، وإما مجاوزا له ، نظر إن كان ذلك لسوء الرمي ، حسب على الرامي ، ولا يرد إليه السهم ليرمي به ، وإن كان لنكبة عرضت ، أو خلل في آلة الرمي بغير تقصير من الرامي ، فذلك السهم غير محسوب عليه ، ويوضح هذا الأصل بصور ، إحداها : إذا عرض في مرور السهم إنسان أو بهيمة فمنع السهم ، أو القوس إن كان لتقصيره وسوء رميه حسب عليه ، وإن الرمية عليه ، فيعيدها ، لأنه معذور ، ولو انقطع الوتر ، أو انكسر السهم ، أو القوس إن كان تقصيره وسوء رميه حسب عليه ، وإن كان لضعف الآلة وغيره لا لتقصيره وإساءته ، لم تحسب ، كما لو حدث في يده علة أو ريح ، وقيل : إن وقع السهم عند هذه العوارض قريبا من الغرض ، حسب عليه ، حكاه الإمام عن أبي إسحاق ، وقيل [ ص: 384 ] إن وقع السهم مجاوزا للغرض ، حسب عليه ، لأن المجاوزة تدل على أن العارض لم يؤثر ، وإنما هو لإساءته ، والأول هو الصحيح المنصوص ، لأن الخلل يؤثر تارة في التقصير ، وتارة في الإسراف ، فإن قلنا : تحسب عليه ، فلو أصاب حسب له ، وإن قلنا بالمنصوص : إنه لا يحسب عليه ، فأصاب ، حسب له على الأصح ، لأن الإصابة مع النكبة تدل على جودة الرمي ، ثم في كتاب ابن كج أن الانقطاع والانكسار إنما يؤثر حدوثهما قبل خروجه من القوس ، وأما بعده ، فلا أثر له ، وصور البغوي انكسار السهم فيها إذا كان بعد خروجه من القوس ، وجعله عذرا ، ولو انكسر السهم نصفين بلا تقصير ، وأصاب أحد نصفيه الغرض إصابة شديدة ، فثلاثة أوجه ، أحدها : لا تحسب ، والثاني : تحسب الإصابة بالنصف الأعلى ، وهو الذي فيه الفوق دون الذي فيه النصل ، والثالث وهو الصحيح ، وبه قطع العراقيون والأكثرون وهو المنصوص : تحسب الإصابة بالنصف الذي فيه النصل دون الأعلى ، ولو أصاب بالنصفين ، لم تحسب إصابتين ، وكذا لو رمى سهمين دفعة واحدة ، ذكره ابن كج ، ولو حاد السهم عن سنن الهدف ، وخرج عن السماطين ، حسب عليه لسوء رميه ، ولو رمى إلى غير الجهة التي فيها الهدف ، فهذا اشتغال بغير النضال الذي تعاقدا عليه ، فلا يحسب عليه .

                                                                                                                                                                        الثانية : كان في الغرض سهم ، فأصاب سهمه فوق ذلك السهم ، نظر إن كان ذلك السهم تعلق به ، وبعضه خارج ، لم يحسب له ، لأنه لا يدري هل كان يبلغ الغرض لولا هذا السهم ، ولا يحسب عليه أيضا ، لأنه عرض دون الغرض عارض ، فإن شقه ، وأصاب الغرض ، حسب ، وقد يجيء فيه الخلاف السابق في البهيمة ، فإن كان ذلك السهم قد غرق فيه ، حسب إصابة ، وإن كان الشرط الخسق ، لم يحسب له ولا عليه ، لأنه لا يدري هل كان بخسق أم لا ؟ وينبغي أن [ ص: 385 ] ينظر إلى ثبوته فيه ، وتقاس صلابة ذلك السهم بصلابة الغرض كما سبق نظيره ، ولو أغرق الرامي ، وبالغ في المد حتى دخل النصل مقبض القوس ، ووقع السهم عنده ، فالنص إلحاقه بانكسار القوس وانقطاع الوتر ونحوهما ، لأن سوء الرمي أن يصيب غير ما قصده ، ولم يوجد هذا هنا ، وعن صاحب " الحاوي " أنه يحسب عليه ، وقال ابن القطان : إن بلغ مدى الغرض ، حسب عليه وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        الثالثة : الريح اللينة لا تؤثر حتى لو رمى زائلا عن المسامتة ، فردته الريح اللينة ، أو رميا ضعيفا ، فقوته ، فأصاب ، حسب له وإن صرفته عن السمت بعض الصرف ، فأخطأ ، حسب عليه ، لأن الجو لا يخلو عن الريح اللينة غالبا ، ويضعف تأثيرها في السهم مع سرعة مروره ، وقيل : يمنع الاحتساب له وعليه ، وقيل : يمنع الاحتساب عليه ، والصحيح الأول ، ولو كانت الريح عاصفة ، واقترنت بابتداء الرمي ، فوجهان ، أحدهما وهو ظاهر النص ، وبه أجاب الإمام والغزالي : لا يؤثر لأن ابتداء الرمي والريح عاصفة تقصير ، ولأن للرماة حذقا في الرمي وقت هبوب الريح ليصيبوا ، فإذا أخطأ ، فقد ترك ذلك ، وظهر سوء رميه ، وأصحهما وهو قول ابن سلمة ، وبه قطع العراقيون وغيرهم : لا يحسب له إن أصاب لقوة تأثيرها ، ولهذا يجوز لكل واحد ترك الرمي إلى أن تركد بخلاف اللينة ، ولو هجم هبوب العاصفة بعد خروج السهم من القوس ، فمقتضى الترتيب أن يقال : إن قلنا : اقترانها مؤثر ، فهبوبها أولى ، وإلا فوجهان ، أحدهما : أنها كالنكبات العارضة ، والثاني : المنع ، لأن الجو لا يخلو عن الريح ، [ ص: 386 ] ولو فتح هذا الباب ، لتعلق به المخطئون ، وطال النزاع ، والمذهب : أنه إن أخطأ في الهجوم لا يحسب عليه ، وإن أصاب ، فهل يحسب له ؟ فيه الخلاف في السهم المزدلف ، وقال الشيخ أبو إسحاق : عندي أنه لا يحسب له قطعا ، لأنا لا نعلم أنه أصاب برميه ، ولو هبت ريح نقلت الغرض إلى موضع آخر ، فأصاب السهم الموضع المنتقل عنه ، حسب له ، إن كان الشرط الإصابة على الصحيح ، وإن كان الخسق ، نسبت صلابة الموضع بصلابة الغرض ، ولو أصاب الغرض في الموضع المنتقل إليه ، حسب عليه ، لا له ، ولو أزالت الريح الغرض حتى استقل السهم ، فأصابه السهم ، قال ابن كج : لا يحسب له .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية