الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1181 1238 - حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا شقيق ، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من مات يشرك بالله شيئا دخل النار " . وقلت أنا : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . [4497 ، 6683 - مسلم : 92 - فتح: 3 \ 110]

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 382 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 382 ] ثم ذكر فيه حديث أبي ذر : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاني آت من ربي فأخبرني -أو قال : بشرني- أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟! قال : "وإن زنى وإن سرق " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث شقيق عن عبد الله : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من مات يشرك بالله شيئا دخل النار " . وقلت أنا : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              ترجمة الباب بعض من حديث صحيح أخرجه أبو داود عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " قال الحاكم : صحيح الإسناد . ولأبي زرعة عند وفاته فيه حكايته ، أخبرنا بها الوجيه العوفي السكندري المعمر مشافهة ، عن [ ص: 383 ] ابن رواح عامة ، أنا السلفي ، أنا أبو علي البرداني ، ثنا إبراهيم بن هناد النسفي ، ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد القطان ، ثنا أبو عبد الله محمد بن مسلم بن وارة الرازي قال : حضرت مع أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي عند أبي زرعة الرازي وهو في النزع فقلت لأبي حاتم : تعال حتى نلقنه الشهادة ، فقال أبو حاتم : إني لأستحي من أبي زرعة أن ألقنه الشهادة ، ولكن تعال حتى نتذاكر الحديث فلعله إذا سمعه يقول ، فبدأت فقلت : حدثنا أبو عاصم النبيل ، ثنا عبد الحميد بن جعفر ، فارتج علي الحديث حتى كأني ما سمعته ولا قرأته ، فبدأ أبو حاتم فقال : حدثنا محمد بن بشار ، ثنا أبو عاصم النبيل ، عن عبد الحميد بن جعفر ، فارتج عليه كأنه ما قرأه ، فبدأ أبو زرعة فقال : حدثنا محمد بن بشار ، ثنا أبو عاصم النبيل ، ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي عريب ، عن ابن سيرين مرة ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله " وخرجت روحه مع الهاء قبل أن يقول : "دخل الجنة " وذلك سنة اثنتين وستين ومائتين .

                                                                                                                                                                                                                              وقول وهب وقع في حديث مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه البيهقي من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له حين بعثه إلى اليمن : "إنك ستأتي أهل كتاب فيسألونك عن مفتاح الجنة ، فقل شهادة [ ص: 384 ] أن لا إله إلا الله ، ولكن مفتاح بلا أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح لك " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "سيرة ابن إسحاق " : لما أرسل العلاء بن الحضرمي : "إذا سئلت عن مفتاح الجنة ، قل : معناها لا إله إلا الله " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مسند أبي داود الطيالسي " من حديث أبي يحيى القتات عن مجاهد ، عن جابر مرفوعا : "مفتاح الجنة الصلاة " .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أبو نعيم في كتابه "أحوال الموحدين الموقنين " أن أسنان هذا المفتاح في الطاعات الواجبة من القيام بطاعة الله تعالى وتأديتها ، والمفارقة للمعاصي ومجانبتها .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال ابن بطال : إنه أراد بالأسنان القواعد التي بني الإسلام عليها التي هي كمال الإيمان ودعائمه خلاف قول الغالية من المرجئة [ ص: 385 ] والجهمية الذين يقولون : إن الفرائض ليست إيمانا ، وقد سماها الله تعالى إيمانا بقوله : وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة : 143] أي : صلاتكم إلى بيت المقدس ، وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه [النور : 62] واستئذانهم له عمل مفترض عليهم فسموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي : قول وهب بمعنى التشديد ، ولعله لم يبلغه حديث أبي ذر ، وحديث عتبان ، وحديث معاذ فيتأمل المعنى : من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو مفتاح له أسنان ، إلا أنه إن خلط ذلك بالكبائر حتى مات مصرا عليها لم تكن أسنانه بالتامة ، فربما طال علاجه ، وربما يسر له الفتح بفضله .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 386 ] وروي عن عبد الله بن معقل قال : كان وهب بن منبه [جالسا] في مجلس ابن عباس فسئل : أليس تقول : إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال علي : وجدت في التوراة : ولكن اتخذوا له أسنانا ، فسمع ذلك ابن عباس فقال : أسنانه والله عندي :

                                                                                                                                                                                                                              أولها : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهو المفتاح .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني : الصلاة ، وهو القنطرة .

                                                                                                                                                                                                                              والثالث : الزكاة ، وهي الطهور .

                                                                                                                                                                                                                              والرابع : الصوم ، وهو الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              والخامس : الجهاد .

                                                                                                                                                                                                                              والسادس : الأمر بالمعروف وهو الألفة .

                                                                                                                                                                                                                              والسابع : الطاعة ، وهي العصمة .

                                                                                                                                                                                                                              والثامن : الغسل من الجنابة وهي السريرة . وقد خاب من لا سن له ، هذا والله أسنانها
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي ذر يأتي في اللباس أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : "ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : "وإن زنى وإن سرق " ثلاثا "على رغم أنف أبي ذر " وكان أبو ذر إذا حدث به يقول : وإن رغم أنف أبي ذر .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبد الله : هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال : لا إله إلا الله ، غفر له .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 387 ] وهو يوضح ما استبعد من أنه ليس موافقا التبويب الذي فيه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ; إذ فيه : ثم مات على ذلك . ودل أيضا أن من قالها وارتعد ومات على اعتقادها كذلك . ففي مسلم من حديث عثمان مرفوعا : "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه من حديث أبي هريرة : "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " ولابن ماجه مثله من حديث عبد الله بن جعفر بزيادة : "الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عبد الله أخرجه البخاري في موضع آخر بلفظ : قال رسول الله كلمة وقلت أخرى . قال : "من مات يجعل لله ندا دخل النار " وقلت : من مات لا يجعل لله ندا دخل الجنة . وفي رواية وكيع وابن نمير لمسلم بالعكس : "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " وقلت أنا : من مات يشرك بالله شيئا دخل النار .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 388 ] وفيه رد على من قال : إن ابن مسعود سمع أحد الحكمين ، فرواه وضم إليه الحكم الآخر قياسا على القواعد الشرعية . الظاهر أنه نسي مرة وهي الأولى وحفظ مرة وهي الأخرى فرواهما مرفوعين كغيره من الصحابة . ودخول المشرك النار دخول تأبيد .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالإجماع قائم على أن من مات على ذلك دخل الجنة لكن بعد الفصل بين العباد ، ورد المظالم إلى أهلها ، فيزحزح عنها ويباعد ويعجل له الدخول ، أو يصيبه سفع من النار بكبائر ارتكبها .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه رد على الرافضة والإباضية وأكثر الخوارج في قولهم : إن أصحاب الكبائر والمذنبين من المؤمنين يخلدون في النار بذنوبهم ، والقرآن ناطق بتكذيبهم قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء : 48] والحجة عليهم أن قبول العمل يقتضي ثوابا ، والتخليد ينافيه . وقد أخبر الصادق في كتابه : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [النساء : 40] . وترك المثوبة على الإحسان لا يليق بالربوبية . وقول ابن مسعود السالف أصل في القول بدليل الخطاب وإثبات القياس .

                                                                                                                                                                                                                              وقول أبي ذر : وإن زنى وإن سرق ؟ إنما ذكره لأنه - عليه السلام - قال : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وما في معناه ، فوضح له - عليه السلام - إن وقع ذلك منه .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية