الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1193 1251 - حدثنا علي حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد ، فيلج النار إلا تحلة القسم " .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبد الله وإن منكم إلا واردها [مريم : 71] . [6656 - مسلم : 2632 - فتح: 3 \ 118]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أنس : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث ، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي سعيد : أن النساء قلن للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اجعل لنا يوما . فوعظهن ، وقال : "أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد ، كانوا حجابا من النار " . قالت امرأة : واثنان ؟ قال : "واثنان " . وقال شريك ، عن ابن الأصبهاني : حدثني أبو صالح ، عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله [ ص: 430 ] عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال أبو هريرة : "لم يبلغوا الحنث " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي هريرة : "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد ، فيلج النار إلا تحلة القسم " . قال أبو عبد الله وإن منكم إلا واردها [مريم : 71] .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              يقال : احتسب فلان ولده : إذا مات كبيرا ، وافترطه : إذا كان صغيرا ، قاله ابن فارس ، وابن سيده ، والأزهري ، وآخرون ، وقال ابن دريد : احتسب فلان بكذا أجرا عند الله ، فيشتمل الكبير أيضا ، وحديث أنس أخرجه مسلم أيضا وللنسائي "من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة " فقامت امرأة فقالت : واثنان ، قال : "واثنان " قالت امرأة : يا ليتني ، قلت : واحدا .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي سعيد أخرجه البخاري أيضا كما سلف في العلم واضحا ، وقوله : وقال شريك عن ابن الأصبهاني إلى آخره ، كذا ذكره هنا ، وقال في كتاب العلم : وعن شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، سمعت أبا حازم ، عن أبي هريرة وقال "ثلاثة لم يبلغوا الحنث " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 431 ] والتعليق عن شريك رواه ابن أبي شيبة عنه عن عبد الرحمن : أتاني أبو صالح يعزيني عن ابن لي فأخذ يحدث عن أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابا من النار " فقالت امرأة : يا رسول الله قدمت اثنين ، قال : "ثلاثة " ، ثم قال : "واثنين واثنين " قال أبو هريرة : الفرط : من لم يبلغ الحنث .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضا بلفظ : جاءت امرأة بصبي لها فقالت : يا رسول الله ادع الله له فلقد دفنت ثلاثة ، فقال : "دفنتي ثلاثة ؟ " ، قالت : نعم ، قال : "لقد احتظرت بحظار شديد من النار " وفي لفظ : "صغارهن دعاميص الجنة ، يتلقى أحدهم أباه فيأخذ بثوبه أو بيده فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة " ، وللنسائي : "ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، يقال لهم : ادخلوا الجنة ، فيقولون : حتى يدخل أبوانا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عن أبي عبيدة ، عن أبيه مرفوعا : "وواحد " واستغربه الترمذي ، وفيه معه مجهول .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 432 ] إذا تقرر ذلك فالأحاديث المذكورة وغيرها دالة على أن أطفال المسلمين في الجنة ، وهو عندي إجماع ، ولا عبرة بالمجبرة حيث جعلوهم تحت المشيئة ، فلا يعتد بخلافهم ولا بوفاقهم ، وهو قول مهجور مردود بالسنة ، وإجماع من لا يجوز عليهم الغلط ; لاستحالة غفران الذنوب للآباء رحمة لهم دون أولادهم ، فإن الآباء رحموا بهم . وسيأتي الكلام في الأطفال في موضعه إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                              نعم ذهب جماعة إلى التوقف في أطفال المشركين أن يكونوا في جنة أو نار ، منهم : ابن المبارك ، ، وحماد ، وإسحاق وعدي إلى أولاد المسلمين . وما عارض ذلك فإما ضعيف الإسناد ، والأحاديث الصحيحة مقدمة عليها . ومنها حديث سمرة الثابت في الصحيح : حديث الرؤيا "وأما الولدان حول إبراهيم فكل مولود يولد على الفطرة " قيل : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : "وأولاد [ ص: 433 ] المشركين " . وحديث : "إن الله خلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم " . ساقط ضعيف ، مردود بالإجماع والآثار كما قاله أبو عمر :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 434 ] وقوله : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين [المدثر : 38 - 39] قال علي : هم أطفال المسلمين . نقله أبو عمر عنه ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 435 ] وقال : لا مخالف له من الصحابة . قلت : وروى عبد بن حميد في "تفسيره " عنه أنهم أولاد المشركين .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "ما من الناس من مسلم " ) شرط فيه الإسلام ; لأنه لا نجاة لكافر يموت أولاده . ويحتمل أن يكون ذلك كما قال ابن التين : لأن أجره على مصابه يكفر عنه ذنوبه ، فلا تمسه النار التي يعاقب بها أهل الذنوب ، ففي هذا تسلية للمسلمين في مصابهم بأولادهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : "لم يبلغوا الحنث " هو بالنون والثاء ، يقول لم يبلغوا أن تجري عليهم الحدود . والحنث في الأيمان يحلها الولد . قال أبو المعالي : بلغ الحنث . أي : بلغ مبلغا يجري عليه الطاعة والمعصية . وفي "المحكم " : الحنث : الحلم . وقال البخاري : إنه الذنب . قال القزاز : الذنب العظيم أن يبلغوا أن تكتب ذنوبهم من قوله تعالى : وكانوا يصرون على الحنث العظيم [الواقعة : 46] أي : الذنب . وقال صاحب "المطالع " : ذكر الداودي أنه روي بالخاء المعجمة أي : فعل المعاصي ، قال : وهذا لا يعرف إنما هو بالحاء المهملة ، وكذا استغربه ابن التين فقال : لم يروه غيره كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 436 ] قوله : ( "إلا تحلة القسم " ) قد فسره البخاري بالورود ، وكذا فسره العلماء أي : فلا يردها إلا بقدر ما يبر الله قسمه .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد : موضع القسم مردود إلى قوله : فوربك لنحشرنهم [مريم : 68] وقيل : القسم مضمر والعرب تقسم وتضمر المقسم به ومثله قوله : وإن منكم لمن ليبطئن [النساء : 72] معناه : وإن منكم والله لمن ليبطئن وكذلك وإن منكم إلا واردها [مريم : 71] المعنى : والله إلا واردها ، وقال غيره : لا قسم في هذه الآية فتكون له تحلة وهو معنى قوله : "إلا تحلة القسم " إلا الشيء لا يناله معه مكروه فمعناه على هذين التأويلين : أن النار لا تمسه إلا قدر وروده عليها ثم ينجو بعد ذلك لقوله تعالى : ثم ننجي [مريم : 72] الآية ، وقيل : يقرون عليها وهي خامدة ، وقيل : يمرون على الصراط وهو جسر عليها قاله ابن مسعود وكعب الأحبار ، ورواية عن ابن عباس . وقيل : ما يصيبهم في الدنيا من الحمى . قال مجاهد : الحمى من فيح جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : المراد به المشركون ، وحكي عن ابن عباس أيضا واحتج [ ص: 437 ] بقراءة بعضهم : وإن منكم إلا واردها أو تكون على مذهب هؤلاء ثم ننجي الذين اتقوا بخروج المتقين من جملة من يدخلها ; ليعلم فضل النعمة بما شاهد فيه أهل العذاب ، وبه قال الحسن وابن مسعود وقتادة : أن ورودها ليس دخولها -وقواه الزجاج - وابن عباس ومالك فيما حكاه ابن حبيب .

                                                                                                                                                                                                                              وغيرهما قالوا : إنه الدخول ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال : العرب إذا أرادت تقليل مكث الشيء وتقصير مدته شبهوه بتحليل القسم ، فيقولون : ما يقيم فلان عند فلان إلا تحلة القسم ، ومعناه : لا تمسه إلا قليلا ، وتوهم ابن قتيبة أنه ليس بقسم وقد جاء في ذلك حديث مرفوع ، فذكره ، وقال أبو عمر : ظاهر قوله فتمسه النار أن [ ص: 438 ] الورود : الدخول ; لأن المسيس حقيقته في اللغة : المماسة . روي عن عباس وعلي أن الورود : الدخول . وكذا رواه أحمد عن جابر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 439 ] وقال قوم : الورود للمؤمنين أن يروا النار ثم ينجوا منها الفائزون ويصلاها من قدر عليه . قال : ويحتمل أن تكون تحلة القسم [استثناء منقطعا] فيكون المعنى : لكن تحلة القسم أي : لا تمسه النار أصلا كلاما تاما ثم ابتدأ إلا تحلة القسم لا بد منها لقوله : وإن منكم إلا واردها قال : والوجه عندي في هذا الحديث وشبهه أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد : وهذه الآية أصل لمن حلف ليفعلن كذا ثم فعل منه شيئا أنه يبر في يمينه فيكون قد بر في القليل كما بين في الكثير ، وليس يقول ذلك مالك .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " ) قيل : إن الهاء راجعة إلى الأب . وقيل : إلى الرب جل جلاله ; لأن له الفضل والمنة ، فذكر ما للآباء من الفضل ولم يذكر ما في الأولاد ، لكن إذا رحم بهم الآباء فالأبناء أولى بالرحمة وأحرى .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية