الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        قال : ( فإن غصب مسلم خمرا فخللها أو جلد ميتة فدبغه فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه ) والمراد بالفصل الأول : إذا خللها بالنقل من الشمس إلى الظل ومنه إلى [ ص: 415 ] الشمس ، وبالفصل الثاني : إذا دبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص ونحو ذلك . والفرق أن هذا التخليل تطهير له بمنزلة غسل الثوب النجس فيبقى على ملكه إذ لا تثبت المالية به وبهذا الدباغ اتصل بالجلد مال متقوم للغاصب كالصبغ في الثوب فكان بمنزلته ; فلهذا يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ الجلد ، ويعطي ما زاد الدباغ فيه ; وبيانه : أنه ينظر إلى قيمته ذكيا غير مدبوغ وإلى قيمته مدبوغا فيضمن فضل ما بينهما وللغاصب أن يحبسه حتى يستوفي حقه كحق الحبس في المبيع . قال : ( وإن استهلكهما ضمن الخل ولم يضمن الجلد عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : يضمن الجلد مدبوغا ويعطي ما زاد الدباغ فيه ) ولو هلك في يده لا يضمنه بالإجماع .

                                                                                                        أما الخل : فلأنه لما بقي على ملك مالكه وهو مال متقوم ضمنه بالإتلاف . ويجب مثله ; لأن الخل من ذوات الأمثال ، وأما الجلد فلهما : أنه باق على ملك المالك حتى كان له أن يأخذه ، وهو مال متقوم ، فيضمنه مدبوغا بالاستهلاك ، ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه كما إذا غصب ثوبا فصبغه ثم استهلكه يضمنه ، ويعطيه المالك ما زاد الصبغ فيه ; ولأنه واجب الرد ; فإذا فوته عليه خلفه قيمته كما في المستعار وبهذا فارق الهلاك بنفسه ، وقولهما : يعطي ما زاد الدباغ فيه محمول على اختلاف الجنس .

                                                                                                        أما عند اتحاده فيطرح عنه ذلك القدر ويؤخذ منه الباقي لعدم الفائدة في الأخذ منه ، ثم في الرد عليه ، وله : أن التقوم حصل بصنع الغاصب وصنعته متقومة لاستعماله مالا متقوما فيه ، ولهذا كان له أن يحبسه حتى يستوفي ما زاد الدباغ فيه ، فكان حقا له والجلد تبع له في حق التقوم ، ثم الأصل وهو الصنعة غير مضمون عليه ، فكان التابع كما إذا هلك من غير قيمته ، بخلاف وجوب الرد حال قيامه ; لأنه يتبع الملك والجلد غير تابع الصنعة في حق الملك لثبوته قبلها ، وإن لم يكن متقوما ، بخلاف الذكي والثوب ; لأن التقوم فيهما كان ثابتا قبل الدبغ والصبغ ، فلم يكن تابعا للصنعة ; ولو كان قائما فأراد المالك أن يتركه [ ص: 416 ] على الغاصب في هذا الوجه ويضمنه قيمته قيل : ليس له ذلك ; لأن الجلد لا قيمة له بخلاف صبغ الثوب ; لأن له قيمة : وقيل ليس له ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله ، وعندهما : له ذلك ; لأنه إذا تركه عليه وضمنه عجز الغاصب عن رده فصار كالاستملاك ، وهو على هذا الخلاف على ما بيناه ، ثم قيل : يضمنه قيمة جلد مدبوغ ويعطيه ما زاد الدباغ فيه كما في الاستهلاك ، وقيل : يضمنه قيمة جلد ذكي غير مدبوغ ، ولو دبغه بما لا قيمة له كالتراب والشمس فهو لمالكه بلا شيء ; لأنه بمنزلة غسل الثوب . ولو استهلكه الغاصب يضمن قيمته مدبوغا ، وقيل : طاهرا غير مدبوغ ; لأن وصف الدباغة هو الذي حصله ، فلا يضمنه .

                                                                                                        وجه الأول وعليه الأكثرون : أن صفة الدباغة تابعة للجلد ، فلا تفرد عنه وإذا صار الأصل مضمونا عليه فكذا صفته . ولو خلل الخمر بإلقاء الملح فيه قالوا عند أبي حنيفة رحمه الله : صار ملكا للغاصب ولا شيء له عليه ، وعندهما : أخذه المالك ، وأعطى ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد ، ومعناه هاهنا : أن يعطى مثل وزن الملح من الخل ، وإن أراد المالك تركه عليه وتضمينه فهو على ما قيل ; وقيل في دبغ الجلد : ولو استهلكها لا يضمنها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما ، كما في دبغ الجلد .

                                                                                                        ولو خللها بإلقاء الخل فيها ، فعن محمد رحمه الله : أنه إن صار خلا من ساعته يصير ملكا للغاصب ، ولا شيء عليه ; لأنه استهلاك له ، وهو غير متقوم وإن لم تصر خلا إلا بعد زمان ، بأن كان الملقى فيه خلا قليلا ، فهو بينهما على قدر كيلهما ; لأن خلط الخل بالخل في التقدير وهو على أصله ليس باستهلاك ، وعند أبي حنيفة رحمه الله : هو للغاصب في الوجهين ، ولا شيء عليه ; لأن نفس الخلط استهلاك عنده ، ولا ضمان في الاستهلاك ; لأنه أتلف ملك نفسه .

                                                                                                        وعن محمد رحمه الله : لا يضمن بالاستهلاك في الوجه الأول لما بينا ويضمن في الوجه الثاني ; لأنه أتلف ملك غيره . وبعض المشايخ أجروا جواب الكتاب على إطلاقه أن للمالك أن يأخذ الخل في الوجوه كلها بغير شيء ; لأن الملقى فيه [ ص: 417 ] يصير مستهلكا في الخمر ، فلم يبق متقوما ، وقد كثرت فيه أقوال المشايخ ، وقد أثبتناها في كفاية المنتهى . .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الخدمات العلمية