الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما السريتان إذا التقتا في دار الإسلام ، فأخذ منها سرية الإمام فإنما اختصوا بملكها للحاجة والضرورة ، وهي أن بالإمام حاجة إلى بعث السرايا لحراسة الحوزة وحماية البيضة عن شر الكفرة ، إذ الكفرة يقصدون دار الإسلام والدخول في حدودها بغتة ، فإذا علموا ببعث السرايا وتهيئهم للذب عن حريم الإسلام ، قطعوا الأطماع فبقيت البيضة محروسة ، فلو لم يختصوا بالمأخوذ ، لما انقاد طبعهم لكفاية هذا الشغل ، فتمتد أطماع الكفرة إلى دار الإسلام ، ولهذا إذا نفل الإمام سرية ، فأصابوا شيئا يختصون به لوقوع الحاجة إلى التنفيل ; لاختصاص بعض الغزاة بزيادة [ ص: 117 ] شجاعة ; لأنه لا ينقاد طبعه لإظهاره ، إلا بالترغيب بزيادة من المصاب بالتنفيل كذا هذا .

                                                                                                                                وهل يجب فيه الخمس ؟ فعن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان والصحيح أنه لا يجب ; لأن الخمس إنما يجب في الغنائم ، والغنيمة اسم للمال المأخوذ عنوة وقهرا بإيجاف الخيل والركاب ، ولم يوجد لحصوله في أيديهم بغير قتال ، فكان مباحا ، ملك لا على سبيل القهر والغلبة فلا يجب فيه الخمس كسائر المباحات .

                                                                                                                                وكذا روي عن محمد روايتان ، والصحيح أنه يجب فيه الخمس ; لأن الملك عنده يثبت بأخذه ، وإنما أخذه على سبيل القهر والغلبة ، فكان في حكم الغنائم ، ولو دخل دار الإسلام فأسلم قبل أن يؤخذ ، ثم أخذه واحد من المسلمين يكون فيئا لجماعة المسلمين أيضا عند أبي حنيفة ، وعندهما يكون حرا لا سبيل لأحد عليه ، وهذا فرع الأصل الذي ذكرنا أن عند أبي حنيفة - رحمه الله - كما دخل دار الإسلام فقد انعقد سبب الملك فيه لوقوعه في يد أهل الدار ، فاعتراض الإسلام بعد انعقاد سبب الملك لا يمنع الملك ، وعندهما سبب الملك هو : الأخذ حقيقة ، فكان حرا قبله حيث وجد الإسلام قبل وجود سبب الملك فيه فيمنع ثبوت الملك على ما مر ، ولو رجع هذا الحربي إلى دار الحرب خرج من أن يكون فيئا بالإجماع .

                                                                                                                                أما عند أبي حنيفة فلأن حق أهل دار الإسلام لا يتأكد إلا بالأخذ حقيقة ، ولم يوجد وأما عندهما فلأنه لم يثبت الملك أصلا إلا بحقيقة الأخذ ، ولم يوجد ، وصار هذا كما إذا انفلت واحد من الأسارى قبل الإحراز بدار الإسلام ، والتحق بمنعتهم إنه يعود حرا كما كان كذا هذا ولو ادعى هذا الحربي بأمان ، لم يقبل قوله عند أبي حنيفة ، وعندهما يقبل .

                                                                                                                                أما عنده فلأن دخول دار الحرب سبب ثبوت الملك ، والأمان عارض مانع من انعقاد السبب ، فلا تقبل دعوى العارض إلا بحجة وأما عندهما فلأن الملك فيه يقف على حقيقة الأخذ فكان حرا قبله فكأن دعوى الأمان دعوى حكم الأصل فتقبل ، وكذلك لو قال الآخذ : إني آمنته لم يقبل قوله عند أبي حنيفة ، وعندهما يقبل .

                                                                                                                                أما عنده فلأن هذا إقرار يتضمن إبطال حق الغير فلا يقبل ، وعندهما هذا إقرار على نفسه ، وإنه غير متهم في حق نفسه ولو دخل هذا الحربي الحرم قبل أن يؤخذ ، فهو فيء عند أبي حنيفة ودخول الحرم لا يبطل ذلك عنه ; لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بين الحرم وغيره ، والدليل عليه أن الإسلام لم يبطل الملك ، فالحرم أولى ولأن الإسلام أعظم حرمة من الحرم ، وعندهما لا يكون فيئا إلا بحقيقة الأخذ فيبقى على أصل الحرية ، ولا يتعرض له ، لكنه لا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يؤوى ، ولا يبايع ، حتى يخرج من الحرم .

                                                                                                                                ولو أمنه رجل من المسلمين في الحرم أو بعد ما خرج من الحرم قبل أن يؤخذ لم يصح عند أبي حنيفة وعندهما يصح ، ويرد إلى مأمنه ; لأن عنده صار فيئا لجماعة المسلمين بنفس دخول دار الإسلام ، وعندهما لا يصير فيئا إلا بحقيقة الأخذ ، فإذا أمنه قبل الأخذ يصح ولا يصح بعده ; لأنه مرموق ولو أخذه رجل في الحرم وأخرجه منه فقد أساء ، وكان فيئا لجماعة المسلمين عند أبي حنيفة وعندهما يكون لمن أخذه ، أما عنده فلأن الملك قد ثبت بدخوله دار الإسلام ، فالأخذ في الحرم لا يبطله وأما عندهما فلأن الملك وإن كان يثبت بالأخذ وإنه منهي لكن النهي لغيره ، وهو حرمة الحرم فلا يمنع كونه سببا للملك في ذاته كالبيع وقت النداء ونحو ذلك ، ولو أخذه في الحرم ولم يخرجه فينبغي أن يخلي سبيله في الحرم رعاية لحرمة الحرم ما دام فيه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية