الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( أما ) الذي يرجع إلى حال قيامه فهو وجوب رد المغصوب على الغاصب ، والكلام في هذا الحكم في ثلاثة مواضع : في بيان سبب وجوب الرد ، وفي بيان شرط وجوبه ، وفي بيان ما يصير المالك به مستردا أما السبب فهو أخذ مال الغير بغير إذنه لقوله عليه الصلاة والسلام : { على اليد ما أخذت حتى ترد } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يأخذ أحدكم مال صاحبه لاعبا ولا جادا ، فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليرد عليه } ولأن الأخذ على هذا الوجه معصية ، والردع عن المعصية واجب ، وذلك برد المأخوذ ، ويجب رد الزيادة المنفصلة ، كما يجب رد الأصل ; لوجود سبب وجوب الرد فيه ، ومؤنة الرد على الغاصب ; لأنها من ضرورات الرد ، فإذا وجب عليه الرد وجب عليه ما هو من ضروراته ، كما في رد العارية .

                                                                                                                                ( وأما ) شرط وجوب الرد فقيام المغصوب في يد الغاصب حتى لو هلك في يده أو استهلك صورة ومعنى ، أو معنى لا صورة ، ينتقل الحكم من الرد إلى الضمان ; لأن الهالك لا يحتمل الرد ، وعلى هذا يخرج ما إذا كان المغصوب حنطة فزرعها الغاصب أو نواة فغرسها حتى نبتت ، أو باقلة فغرسها حتى صارت شجرة ، أو بيضة فحضنها حتى صارت دجاجة ، أو قطنا فغزله ، أو غزلا فنسجه ، أو ثوبا فقطعه أو خاطه قميصا ، أو لحما فشواه أو طبخه ، أو شاة فذبحها وشواها أو طبخها ، أو حنطة فطحنها ، أو دقيقا فخبزه ، أو سمسما فعصره ، أو عنبا فعصره ، أو حديدا فضربه سيفا ، أو سكينا أو صفرا أو نحاسا فعمله آنية ، أو ترابا له قيمة فلبنه أو اتخذه خزفا ، أو لبنا فطبخه آجرا ، ونحو ذلك : أنه ليس للمالك أن يسترد شيئا من ذلك عندنا ، ويزول ملكه بضمان المثل أو القيمة .

                                                                                                                                وعند الشافعي له ولاية الاسترداد ، ولا يزول ملكه وجه قوله : أن ذات المغصوب وعينه قائم بعد فعل الغاصب ، وإنما فات بعض صفاته ، فلا يبطل حق الاسترداد ، كما إذا غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه ، أو صبغه أحمر أو أصفر ; لأن الملك في المغصوب كان ثابتا للمالك ، والعارض وهو فعل الغاصب محظور ، فلا يصلح سببا لثبوت الملك له ، فيلحق بالعدم ، فيبقى المغصوب على ملك المالك ، فتبقى له ولاية الاسترداد .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن فعل الغاصب في هذه المواضع وقع استهلاكا للمغصوب إما صورة ومعنى أو معنى لا صورة ، فيزول ملك المالك عنه ، وتبطل ولاية الاسترداد ، كما إذا استهلكه حقيقة ، ودلالة تحقق الاستهلاك أن المغصوب قد تبدل وصار شيئا آخر بتخليق الله تعالى وإيجاده ; لأنه لم تبق صورته ولا معناه الموضوع له في بعض المواضع ولا اسمه ، وقيام الأعيان بقيام صورها [ ص: 149 ] ومعانيها المطلوبة منها ، وفي بعضها إن بقيت الصورة فقد فات معناه الموضوع له المطلوب منه عادة ، فكان فعله استهلاكا للمغصوب صورة ومعنى أو معنى فيبطل حق الاسترداد ، إذ الهالك لا يحتمل الرد كالهالك الحقيقي ، ولأنه إذا حصل الاستهلاك يزول ملك المالك ; لأن الملك لا يبقى في الهالك ، كما في الهالك الحقيقي ، فتنقطع ولاية الاسترداد ضرورة ، ولأن الاستهلاك يوجب ضمان المثل أو القيمة للمالك لوقوعه اعتداء عليه أو إضرارا به ، وهذا يوجب زوال ملكه عن المغصوب لما نذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                وإذا زال ملك المالك بالضمان يثبت الملك للغاصب في المضمون لوجود سبب الثبوت في محل قابل ، وهو إثبات الملك على مال غير مملوك لأحد ، وبه تبين أن فعله الذي هو سبب لثبوت الملك مباح لا حظر فيه ، فجاز أن يثبت الملك به ، وعلى هذا يخرج ما إذا غصب لبنا أو آجرا أو ساجة فأدخلها في بنائه أنه لا يملك الاسترداد عندنا ، وتصير ملكا للغاصب بالقيمة خلافا للشافعي رحمه الله فهو على أصله المعهود في جنس هذه المسائل أن فعل الغاصب محظور ، فلا يصلح سببا لثبوت الملك ، لكون الملك نعمة وكرامة فالتحق فعله بالعدم شرعا فبقي ملك المغصوب منه ، كما كان .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن المغصوب بالإدخال في البناء والتركيب صار شيئا آخر غير الأول لاختلاف المنفعة ، إذ المطلوب من المركب غير المطلوب من المفرد ، فصار بها تبعا له ، فكان الإدخال إهلاكا معنى فيوجب زوال ملك المغصوب منه ويصير ملكا للغاصب ، ولأن الغاصب يتضرر بنقض البناء ، والمالك وإن كان يتضرر بزوال ملكه أيضا لكن ضرره دون ضرر الغاصب ; لأنه يقابله عوض ، فكان ضرر الغاصب أعلى ، فكان أولى بالدفع ، ولهذا لو غصب من آخر خيطا فخاط به بطن نفسه أو دابته ينقطع حق المالك ، كذا هذا وذكر الكرخي رحمه الله أن موضوع مسألة الساجة ما إذا بنى الغاصب في حوالي الساجة لا على الساجة ، فأما إذا بنى على نفس الساجة لا يبطل ملك المالك ، بل ينقض ، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله ; لأن البناء إذا لم يكن على نفس الساجة ، لم يكن الغاصب متعديا بالبناء لينقض إزالة للتعدي .

                                                                                                                                وإذا كان البناء عليها كان متعديا على الساجة ، فيزال تعديه بالنقض ، والصحيح أن الجواب في الموضعين ، والخلاف في الفصلين ثابت ; لأنه كيف ما كان لا يمكنه رد الساجة ، إلا بنقض البناء ولزوم ضرر معتبر ، هذا موضوع المسألة ، حتى لو كان يمكنه الرد بدون ذلك لا ينقطع حق المالك بالاتفاق ، بل يؤمر بالرد ، ولو بيعت الدار في حياة الغاصب أو بعد وفاته كان صاحب هذه الأشياء أسوة الغرماء في الثمن ، فلا يكون أخص بشيء من ذلك ; لأن ملكه قد زال عن العين إلى القيمة ، فبطل اختصاصه بالعين ، وكذلك لو غصب خوصا فجعله زنبيلا لا سبيل للمغصوب منه عليه ، وهو بمنزلة الساجة إذا جعلها بناء ، ولو غصب نخلة فشقها فجعلها جذوعا كان له أن يأخذ الجذوع ; لأن عين المغصوب قائمة .

                                                                                                                                وإنما فرق الأجزاء فأشبه الثوب إذا قطعه ولم يخطه ، ولو غصب أرضا فبنى عليها أو غرس فيها لا ينقطع ملك المالك ، ويقال للغاصب أقلع البناء والغرس وردها فارغة ; لأن الأرض بحالها لم تتغير ولم تصر شيئا آخر ، ألا ترى أنها لم تتركب بشيء ، وإنما جاورها البناء والغرس بخلاف الساجة ; لأنها ركبت وصارت من جملة البناء ، ألا يرى أنه يسمي الكل بناء واحدا ، فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعا ، ويكون له البناء والغرس ; لأن الغاصب يتضرر بالمنع من التصرف في ملك نفسه بالقلع ، والمالك أيضا يتضرر بنقصان ملكه ، فلزم رعاية الجانبين ، وذلك فيما قلنا ، ولو غصب تبر ذهب أو فضة فصاغه إناء ، أو ضربه دراهم أو دنانير فللمغصوب منه أن يأخذه ولا يعطيه شيئا لأجل الصياغة على قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما لا سبيل له على ذلك ، وعلى الغاصب مثل ما غصب .

                                                                                                                                وأجمعوا على أنه إذا سبكه ولم يصغه ، أو جعله مربعا أو مطولا أو مدورا أن له أن يسترده ، ولا شيء عليه .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن صنع الغاصب وقع استهلاكا ; لأن المغصوب بالصياغة صار شيئا آخر ، فأشبه ما إذا غصب حديدا فاتخذه سيفا أو سكينا وجه قوله أن استهلاك الشيء إخراجه من أن يكون منتفعا به منفعة موضوعة له مطلوبة منه عادة ، ولم يوجد هاهنا ; لأن المطلوب من الذهب والفضة الثمنية ، وهي باقية بعد ما استحدث الصنعة ، فلم يتحقق الاستهلاك فبقي على ملك المغصوب منه ، ولو غصب صفرا أو نحاسا أو حديدا فضربه آنية ينظر إن [ ص: 150 ] كان يباع وزنا فهو على الخلاف الذي ذكرنا في الذهب والفضة ; لأنه لم يخرج بالضرب والصناعة عن حد الوزن .

                                                                                                                                وإن كان يباع عددا ليس له أن يسترده بلا خلاف ; لأنه خرج عن كونه موزونا بخلاف الذهب والفضة ; لأن الوزن فيهما أصل لا يتصور سقوطه أبدا ، ولو غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه ، أو شاة فذبحها ولم يشوها ولا طبخها لا ينقطع حق المالك ، إذ الذبح ليس باستهلاك ، بل هو تنقيص وتعييب ، فلا يوجب زوال الملك ، بل يوجب الخيار للمالك على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                ( وأما ) بيان ما يصير المالك به مستردا للمغصوب فنقول وبالله التوفيق : الأصل أن المالك يصير مستردا للمغصوب بإثبات يده عليه ; لأنه صار مغصوبا بتفويت يده عنه ، فإذا أثبت يده عليه ، فقد أعاده إلى يده فزالت يد الغاصب ضرورة ، إلا أن يغصبه ثانيا .

                                                                                                                                وعلى هذا تخرج المسائل إذا كان المغصوب عبدا فاستخدمه ، أو ثوبا فلبسه ، أو دابة فركبها أو حمل عليها صار مستردا له ، ويبرأ الغاصب من الضمان لما قلنا سواء علم المالك أنه ملكه أو لم يعلم ; لأن إثبات اليد على العين أمر حسي لا يختلف بالعلم أو الجهل ، ولهذا لم يكن العلم شرطا لتحقق الغصب ، فلا يكون شرطا لبطلانه ، وكذلك لو كان طعاما فأكله ; لأنه أثبت يده عليه فبطلت يد الغاصب ، وكذا إذا أطعمه الغاصب يبرأ عن الضمان عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله لا يبرأ وجه قوله أنه غره في ذلك حيث أطعمه ولم يعلمه أنه ملكه ، فلا يسقط عنه الضمان .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه أكل طعام نفسه ، فلا يستحق الضمان على غيره ، كما لو كان في يد الغاصب فاستهلكه ، وقوله غره الغاصب ممنوع ، بل هو الذي اغتر بنفسه حيث تناول من غير بحث أنه ملكه أو ملك الغاصب ، والمغتر بنفسه لا يستحق الضمان على غيره ، ولو كان المغصوب عبدا فآجره من الغاصب للخدمة ، أو ثوبا فآجره منه للبس ، أو دابة للركوب وقبل الغاصب الإجارة برئ عن الضمان ; لأن الإجارة إذا صحت صارت يد الغاصب على المحل يد إجارة ، وأنها يد محقة فتبطل يد الغصب ضرورة ، فيبرأ عن الضمان حين وجبت عليه الإجارة بالإجارة ، وقالوا في الغاصب إذا آجر العبد المغصوب من مولاه ليبني له حائطا معلوما أنه يسقط ضمان الغصب حين يبتدئ بالبناء ; لأن البراءة عن الضمان في الموضعين جميعا متعلقة بوجوب الأجرة ، والأجرة في استئجار العبد والثوب تجب بالتسليم وهو التخلية .

                                                                                                                                وههنا تجب بالعمل لا بنفس التخلية ; لذلك افترقا ، ولو زوج الأمة المغصوبة من الغاصب لا يبرأ عن الضمان في .

                                                                                                                                قياس .

                                                                                                                                قول أبي حنيفة رحمه الله ، وعند أبي يوسف يبرأ بناء على أن المشتري هل يصير قابضا بالتزويج أم لا ؟ وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع في بيان حكم البيع ، ولو استأجر الغاصب لتعليم العبد المغصوب عملا من الأعمال فهو جائز ، لكنه لا يصير مستردا للعبد ولا يبرأ الغاصب عن الضمان ، بل هو في يد الغاصب على ضمانه ، حتى لو هلك قبل أن يأخذ في ذلك العمل أو بعده ضمن .

                                                                                                                                وكذلك لو استأجره لغسل الثوب المغصوب ; لأن الإجارة هاهنا ما وقعت على المغصوب ، فلم تثبت يد الإجارة عليه لتبطل عنه يد الغاصب ، فبقي في يد الغصب كما كان ، فبقي مضمونا كما كان بخلاف استئجار المغصوب على ما بينا ، وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الغاصب الأول برئ ; لأن يده يد المالك من وجه فيصح الرد عليه والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية