الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو حفر بئرا في الطريق فوقع رجل فيها فتعلق بآخر ، وتعلق الثاني بثالث ، فوقعوا ، فماتوا - فهذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين : ( أما ) إن علم حال موتهم بأن خرجوا أحياء فأخبروا عن حالهم .

                                                                                                                                ( وإما ) إن لم يعلم ، فإن علم ذلك ( فأما ) موت الأول فلا يخلو من سبعة أوجه ( إما ) إن علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة .

                                                                                                                                ( وإما ) إن علم أنه مات بوقوع الثاني عليه خاصة .

                                                                                                                                ( وإما ) إن علم إن مات بوقوع الثالث عليه خاصة .

                                                                                                                                ( وإما ) إن علم أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه .

                                                                                                                                ( وإما ) إن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه .

                                                                                                                                ( وإما ) إن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه ، وإما إن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه ، فإن علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة - فالضمان على الحافر ; لأن الحافر هو القاتل تسبيبا ، وهو متعد فيه ، فكان الضمان عليه ، فإن علم أنه مات بوقوع الثاني عليه خاصة فدمه هدر ; لأنه هو الذي قتل نفسه حيث جره على نفسه ، وجناية الإنسان على نفسه هدر ، وإن علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة - فالضمان على الثاني ; لأن الثاني هو الذي جر الثالث على الأول حتى أوقعه عليه ، وإن علم أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه فنصفه هدر ، ونصفه على الثاني ; لأن جره الثاني على نفسه هدر ; لأنه جناية على نفسه وجر الثاني والثالث عليه معتبر فهدر النصف وبقي النصف .

                                                                                                                                وإن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه فالنصف على الحافر لوجود الجناية منه بالحفر والنصف هدر لجره الثاني على نفسه ، وإن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف على الحافر ، والنصف على الثاني ; لأنه هو الذي جر الثالث على الأول ، وإن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه فالثلث هدر ، والثلث على الحافر ، والثلث على الثاني ; لأنه مات بثلاث جنايات : أحدهما هدر ، وهي جره الثاني على نفسه فبقيت جناية الحافر ، وجناية الثاني بجرة الثالث على الأول فتعتبر .

                                                                                                                                ( وأما ) موت الثاني فلا يخلو من ثلاثة أوجه : ( إما ) إن علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة ، وإما إن علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة ، وإما إن علم أنه مات بوقوع في البئر ، ووقوع الثالث عليه ، فإن علم أنه مات بسقوطه في البئر خاصة - فديته على الأول ، وليس على الحافر شيء لأن الأول هو الذي جره إلى البئر ، فكان كالدافع ، وإن علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة فدمه هدر ; لأنه مات بفعل [ ص: 277 ] نفسه حيث جر الثالث على نفسه فهدر دمه ، وإن علم أنه مات بسقوطه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف هدر ، والنصف على الأول ; لأنه مات بشيئين : أحدهما فعل نفسه ، وهو جره الثالث على نفسه وجنايته على نفسه هدر ، والثاني فعل غيره ، وهو جر الأول وإيقاعه في البئر .

                                                                                                                                وأما موت الثالث فله وجه واحد لا غير ، وهو سقوطه في البئر ، وديته على الثاني ; لأنه هو الذي جره إلى البئر وأوقعه فيه هذا كله إذا علم حال وقوعهم .

                                                                                                                                وأما إذا لم يعلم - فلا يخلو : إما أن وجد بعضهم على بعض ، وإما إن وجدوا متفرقين ، فإن كانوا متفرقين فدية الأول على الحافر ، ودية الثاني على الأول ، ودية الثالث على الثاني ، وإن كان بعضهم على بعض - فالقياس هكذا أيضا ، وهو أن يكون دية الأول على الحافر ، ودية الثاني على الأول ، ودية الثالث على الثاني ، وهو قول محمد - رحمه الله - وفي الاستحسان : دية الأول أثلاث : ثلث على الحافر ، وثلث على الثاني ، وثلث هدر ، ودية الثاني نصفان : نصف هدر ونصف على الأول ، ودية الثالث كلها على الثاني ، ولم يذكر محمد - رحمه الله - في الاستحسان : أنه قول من وجه القياس أنه وجد لموت كل واحد سبب ظاهر ، وهو الحفر للأول ، والجر من الأول للثاني ، والجر من الثاني للثالث ، وإضافة الأحكام إلى الأسباب الظاهرة أصل في الشريعة .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أنه اجتمع في الأول ثلاثة أسباب كل واحد منها صالح للموت : وقوعه في البئر ، ووقوع الثاني ، ووقوع الثالث عليه إلا أن وقوع الثاني عليه حصل بجره إياه على نفسه فهدر الثلث وبقي الثلثان : ثلث على الحافر بحفره : وثلث على الثاني بجره الثالث على نفسه ، ووجد في الثاني شيئان : الحفر ، ووقوع الثالث عليه إلا أن وقوعه عليه حصل بجره فهدر نصف الدية ، وبقي النصف على الحافر ، ولم يوجد في الثالث إلا سبب واحد ، وهو جر الثاني إياه إلى البئر ، والأصل في الأسباب اعتبارها ما أمكن ، واعتبارها يقتضي أن يكون الحكم ما ذكرنا ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية