الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1069 150 - حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا سليمان بن أبي مسلم عن طاوس سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد نور السماوات والأرض ، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه من جملة التهجد بالليل .

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة.

                                                                                                                                                                                  الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني .

                                                                                                                                                                                  الثاني: سفيان بن عيينة .

                                                                                                                                                                                  الثالث: سليمان بن أبي مسلم المكي الأحول عبد الله خال ابن أبي نجيح ، وأبو مسلم يقال اسمه عبد الله .

                                                                                                                                                                                  الرابع: طاوس بن كيسان اليماني .

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن عباس .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في موضع واحد، وفيه السماع، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه أن شيخه بصري، وسفيان وسليمان مكيان، وطاوس يماني.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه، ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في "الدعوات" عن عبد الله بن محمد ، وفي التوحيد عن ثابت بن محمد مرتين، وعن قبيصة بن عقبة ، كلاهما عن سفيان الثوري ، وعن محمود عن عبد الرزاق ، كلاهما عن ابن جريج عنه به، وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن عمرو الناقد ومحمد بن عبد الله بن نمير وابن أبي عمر ، ثلاثتهم عن ابن عيينة به، وعن محمد [ ص: 166 ] ابن رافع عن عبد الرزاق به، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة ، وفي النعوت عن محمد بن منصور كلاهما عن ابن عيينة به، وفي النعوت أيضا عن محمود بن غيلان وعبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى كلاهما عن يحيى بن آدم عن الثوري به، وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن هشام بن عمار وأبي بكر بن خلاد ، فرقهما، كلاهما عن ابن عيينة به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " إذا قام من الليل يتهجد " ، وفي رواية مالك عن أبي الزبير عن طاوس " إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يتهجد " وظاهر الكلام أنه كان يدعو بهذا الدعاء أول ما يقوم إلى الصلاة ويخلص الثناء على الله تعالى بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده، وفي رواية ابن عباس حين بات عند ميمونة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما استيقظ تلا العشر الآيات من آخر آل عمران فبلغ ما شهده أو بلغه، وقد يكون كله في وقت واحد وسكت هو عنه أو نسيه الناقل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " اللهم " أصله يا الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أنت قيم السماوات والأرض " ، وفي بعض النسخ " اللهم لك الحمد قيم السماوات والأرض " بدون لفظة أنت، ولكنه مقدر في صورة الحذف ; لأن قيم السماوات والأرض مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو أنت، وفي رواية أبي الزبير المذكور " أنت قيام السماوات والأرض " والقيم والقيام والقيوم بمعنى واحد وهو الدائم القيام بتدبير الخلق المعطي له ما به قوامه أو القائم بنفسه المقيم لغيره، وقال الزمخشري : وقرئ القيام والقيم، وقيل: قرأ بهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وقال ابن عباس : القيوم هو الذي لا يزول، وقيل: هو القائم على كل نفس، ومعناه مدبر أمرها، وقيل: قيام على المبالغة من قام بالشيء إذا هيأ له جميع ما يحتاج إليه، وقيل: قيم السماوات والأرض خالقهما وممسكهما أن تزولا، وقرأ علقمة (الحي القيم) وأصله قيوم على وزن فيعل مثل صيب أصله صيوب، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، وقال ابن الأنباري : أصل القيوم القيووم، فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن جعلتا ياء مشددة، وأصل القيام القوام، قال الفراء : وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال، يقولون للصواغ: صياغ، قاله الأنباري في "الكتاب الزاهر"، وقال قتادة : معنى القيم القائم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم، وقال الكلبي : هو الذي لا بديل له، وقال أبو عبيدة : القيوم القائم على الأشياء.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أنت نور السماوات والأرض " ، أي: منورهما، وقرئ (الله نور السماوات والأرض) على صيغة الماضي من التنوير، وقال ابن عباس : هادي أهلهما، وقيل: منزه في السماوات والأرض من كل عيب ومبرأ من كل ريبة، وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد وشمس الزمان، وقال أبو العالية : مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والأولياء، وقال ابن بطال : " أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن "، أي: بنورك يهتدي من في السماوات والأرض، وقيل: معناه ذو نور السماوات والأرض.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أنت ملك السماوات والأرض " كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني " لك ملك السماوات والأرض.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أنت الحق " معناه المتحقق وجوده، وكل شيء صح وجوده وتحقق فهو حق، ومنه قوله تعالى: الحاقة أي: الكائنة حقا بغير شك، وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة والخصوصية ولا ينبغي لغيره، وقال ابن التين : يحتمل أن يكون معناه أنت الحق بالنسبة إلى من يدعى فيه أنه إله أو بمعنى أن من سماك إلها فقد قال الحق، وإنما عرف الحق في الموضعين وهما " أنت الحق ووعدك الحق " ونكر في البواقي ; لأن المسافة بين المعرف باللام الجنسية والنكرة قريبة، بل صرحوا بأن مؤداهما واحد لا فرق إلا بأن في المعرفة إشارة إلى أن الماهية التي دخل عليها اللام معلومة للسامع، وفي النكرة لا إشارة إليه، وقال الطيبي : عرفهما للحصر ; لأن الله هو الحق الثابت الباقي، وما سواه في معرض الزوال، وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره، والتنكير في البواقي للتعظيم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ووعدك الحق " الوعد يطلق ويراد به الخير والشر كلاهما والخير أو الشر خاصة، قال الله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر وليس في وعد الله خلف فلا يخلف الميعاد ليجزي الذين أساءوا بما عملوا إلا ما تجاوز عنه ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى وقيل في قوله: إن الله وعدكم وعد الحق أي: وعد الجنة من أطاعه ووعد النار من كفر به، ويحتمل أن يريد أن وعده حق بمعنى إثبات أنه قد وعد بالحق بالبعث والحشر والثواب والعقاب إنكارا لقول من أنكر وعده بذلك وكذب الرسل فيما بلغوه من وعده ووعيده.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولقاؤك حق " اللقاء البعث أو رؤية الله تعالى وقيل: الموت، وفيه ضعف، ورده النووي .

                                                                                                                                                                                  قوله: " وقولك حق " ، أي: صدق وعدل، وقال الكرماني : (فإن قلت): القول يوصف بالصدق والكذب، يقال: قول صدق أو كذب ولهذا قيل: الصدق هو بالنظر إلى القول المطابق [ ص: 167 ] للواقع والحق بالنظر إلى الواقع المطابق للقول. (قلت): قد يقال أيضا: قول ثابت، ثم إنهما متلازمان.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والجنة حق والنار حق " فيه الإقرار بهما وبالأنبياء، وقال ابن التين : فيه ثلاثة أوجه أحدها أن خبره بذلك لا يدخله كذب ولا تغيير، ثانيها أن خبر من أخبر عنه بذلك وبلغه حق، ثالثها أنهما قد خلقتا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والنبيون حق " بأنهم من عند الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ومحمد حق " إنما خص محمدا من النبيين، وإن كان داخلا فيهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغير الوصف ينزل منزلة تغيير الذات، ثم جرده عن ذاته كأنه غيره فوجب عليه الإيمان به وتصديقه، وهذا مبالغة في إثبات نبوته كما في التشهد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والساعة حق " ، أي: يوم القيامة، وأصل الساعة القطعة من الزمان، ثم أطلق على يوم القيامة فصار اسما لها، وتأتي الوجوه المذكورة فيها، ووجه ذلك أنه لما لم يكن هناك شمس ولا قمر ولا كواكب يقدر بها الزمان وسميت بالساعة، (فإن قلت): ما وجه إطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور وما وجه تكرار لفظ الحق ؟ (قلت): أما وجه الإطلاق فللإيذان بأنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها، وأما وجه التكرار فللمبالغة في التأكيد، والتكرير يستدعي التقرير.

                                                                                                                                                                                  قوله: " اللهم لك أسلمت " ، أي: انقدت وخضعت لأمرك ونهيك واستسلمت لجميع ما أمرت به ونهيت عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وبك آمنت " ، أي: صدقت بك وبما أنزلت من أخبار وأمر ونهي، فظاهره أن الإيمان ليس بحقيقة الإسلام، وإنما الإيمان التصديق، وقال القاضي أبو بكر : الإيمان المعرفة بالله ، والأول أشهر في كلام العرب، قال الله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا أي: بمصدق، إلا أن الإسلام إذا كان بمعنى الانقياد والطاعة فقد ينقاد المكلف بالإيمان فيكون مؤمنا مسلما، وقد يكون مصدقا في بعض الأحوال دون بعض فيكون مسلما مؤمنا، وقال الخطابي : المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال دون بعض والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. (قلت): البحث فيه دقيق، وقد استوفيناه في "كتاب الإيمان".

                                                                                                                                                                                  قوله: " وعليك توكلت " ، أي: فوضت الأمر إليك قاطعا للنظر عن الأسباب العادية، ويقال: أي تبرأت من الحول والقوة وصرفت أمري إليك وأيقنت أنه لن يصيبني إلا ما كتب لي وعلي ففوضت أمري إليك ونعم المفوض إليه، قال الفراء : الوكيل الكافي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وإليك أنبت " ، أي: رجعت إليك في تدبير أمري، والإنابة الرجوع، أي: رجعت إليك مقبلا بالقلب عليك، ومعناه رجعت إلى عبادتك.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وبك خاصمت " ، أي: وبما أعطيتني من البرهان والسنان خاصمت المعاند وقمعته بالحجة والسيف.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وإليك حاكمت " ، أي: كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحاكم بيني وبينه لا غيرك مما كانت تحاكم إليه الجاهلية من صنم وكاهن ونار ونحو ذلك، والمحاكمة رفع القضية إلى الحاكم. وقيل: ظاهره أن لا يحاكمهم إلا الله ولا يرضى إلا بحكمه، قال الله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقال: أفغير الله أبتغي حكما ثم من قوله: " لك أسلمت " إلى قوله: " وإليك حاكمت " قدم صلات الأفعال المذكورة فيه للإشعار بالتخصيص وإفادة الحصر، وكذلك في قوله: " ولك الحمد " في أربعة مواضع، فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فاغفر لي ما قدمت وما أخرت " إنما قال ذلك - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - مع أنه مغفور له لوجهين أحدهما للتواضع وهضم النفس والإجلال لله تعالى والتعظيم له عز وجل.

                                                                                                                                                                                  الثاني: للتعليم لأمته ليقتدوا به في أصل الدعاء والخضوع وحسن التضرع والرغبة والرهبة، والمغفرة تغطية الذنب، وكل ما غطي فقد غفر ومنه المغفر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وما قدمت " ، أي: قبل هذا الوقت وما أخرت عنه، أمر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإشفاق والدعاء إلى الله تعالى والرغبة إليه أن يغفر ما يكون من غفلة تعتري البشر، وما قدم ما مضى، وما أخر ما يستقبل، وذلك مثل قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقال أهل التفسير: الغفران في حقه يتناول من أفعاله الماضي والمستقبل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وما أسررت " ، أي: وما أخفيت، " وما أعلنت "، أي: وما أظهرت، أو المعنى: ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني، وفي التوحيد زاد من طريق ابن جريج عن سلمان " وما أنت أعلم به مني " وهو من عطف العام بعد الخاص.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أنت المقدم وأنت المؤخر " قال ابن التين : أنت الأول وأنت الآخر، وقال ابن بطال : يعني أنه قدم في البعث إلى الناس على غيره - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " نحن الآخرون السابقون " ، ثم قدمه عليهم يوم القيامة بالشفاعة بما فضله به على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فسبق بذلك الرسل.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : هذا الحديث من جوامع الكلم ; إذ لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجوهر وقوامه منه، والنور إلى أن الأعراض منه، والملك لما أنه [ ص: 168 ] حاكم فيها إيجادا وإعداما يفعل ما يشاء، وكل هذه نعم من الله تعالى على عباده، فلهذا قرن كلا منها بالحمد وخص الحمد به، ثم قوله: " أنت الحق " إشارة إلى المبدإ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة إلى المعاد.

                                                                                                                                                                                  وفيه إشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا، وفيه وجوب الإيمان والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله تعالى والاستغفار وغيره. انتهى. ويقال: وفيه زيادة معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظمة ربه وعظم قدرته ، ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه، والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده ووعيده، وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء به - صلى الله عليه وسلم -.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية