الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1153 234 - حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا الأزرق بن قيس قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف نهر إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها - قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي - فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف الشيخ قال: إني سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات [ ص: 288 ] أو سبع غزوات، أو: ثمان، وشهدت تيسيره، وإني أن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) فيه خمس أنفس: آدم بن أبي إياس ، وشعبة بن الحجاج ، والأزرق - بفتح الهمزة، وسكون الزاي - ابن قيس الحارثي البصري ، وهو من أفراد البخاري ، ورجلان: أحدهما هو أبو برزة الأسلمي ، فسره شعبة بقوله: (هو أبو برزة الأسلمي)، واسمه نضلة بن عبيد أسلم قديما، ونزل البصرة ، وروي أنه مات بها، ورد أنه مات بنيسابور ، وروي أنه مات في مفازة بين سجستان وهراة ، وقال خليفة بن خياط : وافى خراسان ، ومات بها بعد سنة أربع وستين، وقال غيره: مات في آخر خلافة معاوية ، أو في أيام يزيد بن معاوية ، والآخر مجهول، وهو قوله: (فجعل رجل من الخوارج )، وإسناد هذا كله بالتحديث بصيغة الجمع، وتفرد به البخاري عن الجماعة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (بالأهواز) بفتح الهمزة، وسكون الهاء، وبالزاي، قاله الكرماني : هي أرض خوزستان ، وقال صاحب العين: الأهواز سبع كور بين البصرة وفارس ، لكل كور منها اسم، ويجمعها الأهواز ، ولا تنفرد واحدة منها بهوز، وفي المحكم: ليس للأهواز واحد من لفظه، وقال ابن خردابة هي بلاد واسعة متصلة بالجبل وأصبهان .

                                                                                                                                                                                  وقال البكري : بلد يجمع سبع كور، كورة الأهواز، وجندي، وسابور، والسوس، وسرق، ونهر بين، ونهر تيرى، وقال ابن السمعاني : يقال لها الآن: سوق الأهواز ، وقال بعضهم: الأهواز بلدة معروفة بين البصرة وفارس ، فتحت أيام عمر رضي الله تعالى عنه ؟ (قلت): قوله: (بلدة) ليس كذلك، بل هي بلاد كما ذكرنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " الحرورية " ، بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى المخففة نسبة إلى حروراء ، اسم قرية، يمد ويقصر. وقال الرشاطي : حروراء قرية من قرى الكوفة ، والحرورية صنف من الخوارج ينسبون إلى حروراء اجتمعوا بها، فقال لهم: على ما نسميكم ؟ قال: أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء ، والنسب إلى مثل حروراء أن يقال: حروراوي، وكذلك ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة، ولكنه حذفت الزوائد تخفيفا، فقيل: الحروري، وكان الذي يقاتل الحرورية إذ ذاك المهلب بن أبي صفرة كما في رواية عمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، عند الإسماعيلي ، وذكر محمد بن قدامة الجوهري في كتابه أخبار الخوارج أن ذلك كان في خمس وستين من الهجرة، وكان الخوارج قد حاصروا أهل البصرة مع نافع بن الأزرق حتى قتل، وقتل من أمراء البصرة جماعة إلى أن ولي عبد الله بن الزبير بن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على البصرة ، وولي المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج .

                                                                                                                                                                                  وفي الكامل لأبي العباس المبرد أن الخوارج تجمعت بالأهواز مع نافع بن الأزرق سنة أربع وستين، فلما قتل نافع ، وابن عبيس رئيس المسلمين من جهة ابن الزبير ، ثم خرج إليهم حارثة بن بدر ، ثم أرسل إليهم ابن الزبير عثمان بن عبيد الله ، ثم توفي القياع، فبعث إليهم المهلب بن أبي صفرة ، وكل من هؤلاء الأمراء يمكثون معهم في القتال حينا، فلعل ذلك انتهى إلى سنة خمس، وهو يعكر على من قال: إن أبا برزة توفي سنة ستين، وأكثر ما قيل: سنة أربع.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فبينا " أصله بين، أشبعت فتحة النون فصارت ألفا يقال: بينا، وبينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من مبتدإ، وخبر، وفعل، وفاعل، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والجواب هنا هو قوله: (إذا رجل يصلي)، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه إذ وإذا، تقول: بينا زيد جالس دخل عليه عمرو ، وإذ دخل عليه عمرو ، وإذا دخل عليه عمرو .

                                                                                                                                                                                  قوله: " أنا " مبتدأ وخبره قوله: " على جرف نهر " جرف بضم الجيم، والراء، وبسكونها أيضا، وفي آخره فاء، وهو المكان الذي أكله السيل، وفي رواية الكشميهني : على حرف نهر، بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء، أي على جانبه، ووقع في رواية حماد بن زيد عن الأزرق في الأدب: كنا على شاطئ نهر قد نضب عنه الماء، أي: زال، وفي رواية مهدي بن ميمون ، عن الأزرق ، عن محمد بن قدامة : كنت في ظل قصر مهران بالأهواز على شط دجيل . وبين هذا تفسير النهر في رواية البخاري ، والدجيل بضم الدال، وفتح الجيم، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره لام، وهو نهر ينشق من دجلة نهر بغداد .

                                                                                                                                                                                  قوله: " إذا رجل " ، كلمة إذا في الموضعين للمفاجأة، وفي رواية الحموي والكشميهني : إذا جاء رجل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال شعبة " ، هو أبو برزة الأسلمي ، أي: الرجل المصلي، والذي يقتضيه المقام أن الأزرق بن قيس الذي يروي عنه [ ص: 289 ] شعبة لم يسم الرجل شعبة ، ولكن رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، عن شعبة ، فقال في آخره: فإذا هو أبو برزة الأسلمي . وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي : فجاء أبو برزة . وفي رواية حماد في الأدب: فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى، وخلاها فانطلقت فاتبعها.

                                                                                                                                                                                  ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الأزرق بن قيس ، أن أبا برزة الأسلمي مشى إلى دابته، وهو في الصلاة. الحديث. وبين مهدي بن ميمون في روايته أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر، وفي رواية عمرو بن مرزوق : فمضت الدابة في قبلته، فانطلق أبو برزة حتى أخذها، ثم رجع القهقرى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " افعل بهذا الشيخ " دعاء عليه، وفي رواية الطيالسي : فإذا شيخ يصلي قد عمد إلى عنان دابته، فجعله في يده فنكصت الدابة، فنكص معها ومعنا رجل من الخوارج فجعل يسبه، وفي رواية مهدي قال: ألا ترى إلى هذا الحمار. وفي رواية حماد : انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أو ثماني " بغير ألف، ولا تنوين. وفي رواية الكشميهني : أو ثماني، وقال ابن مالك : الأصل ثماني غزوات فحذف المضاف، وأبقى المضاف إليه على حاله. وقد رواه عمرو بن مرزوق بلفظ: سبع غزوات، بغير شك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وشهدت تيسيره) ، أي: تسهيله على الناس، وغالب النسخ على هذا. قال الكرماني : وفي بعض الروايات: كل سيره، أي سفره. وفي بعضها: شهدت سيره، بكسر السين، وفتح الياء آخر الحروف جمع السيرة. وحكى ابن التين عن الداودي أنه وقع عنده: وشهدت تستر، بضم التاء المثناة من فوق، وسكون السين، اسم مدينة بخوزستان ، من بلاد العجم، ومعناه: شهدت فتحها، وكانت فتحت في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سنة سبع عشرة من الهجرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وإني إن كنت أن أرجع " ، نقل بعضهم عن السهيلي أنه قال: إني وما بعدها اسم مبتدأ، " وأن أرجع " اسم مبدل في الاسم الأول، وأحب خبر عن الثاني. وخبر كان محذوف، أي: إني إن كنت راجعا أحب إلي. (قلت): ما أظن أن السهيلي أعرب بهذا الإعراب، فكيف يقول: إني، وما بعدها اسم، وهي جملة. (فإن قيل) أراد أنه جملة اسمية مؤكدة بأن يقال له المبتدأ اسم مفرد، والجملة لا تقع مبتدأ، وكذلك قوله: " وأن أرجع " ليس باسم، فكيف يقول اسم مبدل، وهذا تصرف من لم يمس شيئا من علم النحو، والذي يقال: إن الياء في " إني " اسم إن وكلمة إن في إن كنت شرطية، واسم كان هو الضمير المرفوع فيه، وكلمة أن بالفتح مصدرية تقدر لام العلة فيما قبلها، والتقدير: وإن كنت لأن أرجع، وقوله: " أحب " خبر كان، وهذه الجملة الشرطية سدت مسد خبر إن في إني، وذلك لأن رجوعه إلى دابته، وانطلاقه إليها، وهو في الصلاة أحب إليه من أن يدعها، أي: يتركها ترجع إلى مألفها بفتح اللام، أي: معلفها فيشق عليه، وكان منزله بعيدا إذا صلاها، وتركها لم يكن يأتي إلى أهله إلى الليل لبعد المسافة، وقد صرح بذلك في رواية حماد، فقال: إن منزلي متراخ، أي: متباعد، " فلو صليت وتركتها "، أي: الفرس، " لم آت أهلي إلى الليل لبعد المكان ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) قال ابن بطال : لا خلاف بين الفقهاء أن من أفلتت دابته وهو في الصلاة ، أنه يقطع الصلاة ويتبعها، وقال مالك : من خشي على دابته الهلاك، أو على صبي رآه في الموت، فليقطع صلاته. وروى ابن القاسم عنه في مسافر أفلتت دابته، وخاف عليها، أو على صبي، أو أعمى أن يقع في بئر أو نار، أو ذكر متاعا يخاف أن يتلف، فذلك عذر يبيح له أن يستخلف ولا تفسد على من خلفه شيئا، ولا يجوز أن يفعل هذا أبو برزة دون أن يشاهده من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن التين : والصواب أنه إذا كان له شيء له قدر يخشى فواته يقطع، وإن كان يسيرا فعادته على صلاته أولى من صيانة قدر يسير من ماله، هذا حكم الفذ والمأموم، فأما الإمام ففي كتاب ابن سحنون : إذا صلى ركعة، ثم انفلتت دابته، وخاف عليها، أو على صبي، أو أعمى أن يقعا في البئر، أو ذكر متاعا له يخاف تلفه فذلك عذر يبيح له أن يستخلف، ولا يفسد على من خلفه شيئا، وعلى قول أشهب : إن لم يعد واحد منهم بنى قياسا على قوله: (إذا خرج لغسل دم رآه في ثوبه)، وأحب إلي أن يستأنف وإن بنى أجزأه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير حديث الأزرق بن قيس ، أنه رأى أبا برزة يصلي آخذا بعنان فرسه حتى صلى ركعتين، ثم انسل قياد فرسه من يده، فمضى الفرس إلى القبلة، فتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياده، ثم رجع ناكصا على عقبيه حتى صلى الركعتين الباقيتين.

                                                                                                                                                                                  قال محمد رحمه الله: وبهذا نأخذ، الصلاة تجزئ مع ما صنع، لا يفسدها الذي صنع; لأنه رجع على عقبيه، ولم يستدبر القبلة بوجهه حتى لو جعلها خلف ظهره فسدت صلاته، ثم ليس في هذا الحديث فصل بين المشي القليل والكثير، فهذا يبين لك أن المشي في الصلاة مستقبل القبلة لا يوجب فساد الصلاة، وإن كثر، وبعض مشايخنا أولوا هذا الحديث، واختلفوا فيما بينهم في التأويل; [ ص: 290 ] فمنهم من قال: تأويله أنه لم يجاوز موضع سجوده، فأما إذا جاوز ذلك فإن صلاته تفسد; لأن موضع سجوده في الفضاء مصلاه، وكذلك موضع الصفوف في المسجد، وخطاه في مصلاه عفو، ومنهم من قال: تأويله أن مشيه لم يكن متلاصقا بل مشى خطوة فسكن، ثم مشى خطوة، وذلك قليل، وأنه لا يوجب فساد الصلاة، أما إذا كان المشي متلاصقا تفسد، وإن لم يستدبر القبلة; لأنه عمل كثير، ومن المشايخ من أخذ بظاهر الحديث، ولم يقل بالفساد قل المشي أو كثر استحسانا، والقياس أن تفسد صلاته إذا كثر المشي إلا أنا تركنا القياس بحديث أبي برزة رضي الله تعالى عنه، وأنه خص بحالة العذر، ففي غير حالة العذر يعمل بقضية القياس.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية