الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 499 ] وأما الذين نفوا " الرؤية " مطلقا على ظاهره المأثور عن المتقدمين فاتباع لظاهر قوله : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } روى ابن بطة بإسناده عن أشهب قال : قال رجل لمالك : يا أبا عبد الله هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة ؟ فقال مالك : لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب قال تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } . وعن المزني قال سمعت ابن أبي هرم يقول : قال الشافعي : في كتاب الله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } دلالة على أن أولياءه يرونه على صفته . وعن حنبل بن إسحاق قال : سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل - يقول : أدركت الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئا - أحاديث الرؤية - وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين قال أبو عبد الله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فلا يكون حجاب إلا لرؤية فأخبر الله أن من شاء الله ومن أراد فإنه يراه ; والكفار لا يرونه .

                وقال : قال الله { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } . والأحاديث التي تروى في النظر إلى الله حديث جرير بن عبد الله وغيره { تنظرون إلى ربكم } أحاديث صحاح وقال { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } النظر إلى الله . قال أبو عبد الله : أحاديث الرؤية . نؤمن بها ونعلم أنها حق ونؤمن بأننا نرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب . قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد [ ص: 500 ] كفر وكذب بالقرآن ورد على الله تعالى أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل . قال حنبل : قلت لأبي عبد الله في أحاديث الرؤية فقال : صحاح هذه نؤمن بها ونقر بها وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به . قال أبو عبد الله : إذا لم نقر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ودفعناه رددنا على الله أمره قال الله : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . وكذلك قال أبو عبد الله الماجشون - وهو من أقران مالك - في كلام له : فورب السماء والأرض ليجعل الله رؤيته يوم القيامة للمخلصين ثوابا فتنضر بها وجوههم دون المجرمين وتفلج بها حجتهم على الجاحدين : جهم وشيعته وهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا يرونه كما زعموا أنه لا يرى ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم ; كيف لم يعتبروا يقول الله تعالى { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } أفيظن أن الله يقصيهم ويعنتهم ويعذبهم بأمر يزعم الفاسق أنه وأولياءه فيه سواء .

                ومثل هذا الكلام كثير في كلام غير واحد من السلف مثل وكيع بن الجراح وغيره . وقال القاضي أبو يعلى وغيره : كانت الأمة في رؤية الله بالأبصار على " قولين " منهم المحيل للرؤية عليه وهم المعتزلة والنجارية وغيرهم من الموافقين لهم على ذلك . و " الفريق الآخر " أهل الحق والسلف من هذه [ ص: 501 ] الأمة متفقون على أن المؤمنين يرون الله في المعاد وأن الكافرين لا يرونه فثبت بهذا إجماع الأمة - ممن يقول بجواز الرؤية وممن ينكرها - على منع رؤية الكافرين لله وكل قول حادث بعد الإجماع فهو باطل مردود . وقال هو وغيره أيضا . الأخبار الواردة في " رؤية المؤمنين لله " إنما هي على طريق البشارة فلو شاركهم الكفار في ذلك بطلت البشارة ولا خلاف بين القائلين بالرؤية في أن رؤيته من أعظم كرامات أهل الجنة . قال : وقول من قال : إنما يرى نفسه عقوبة لهم وتحسيرا على فوات دوام رؤيته ; ومنعهم من ذلك - بعد علمهم بما فيها من الكرامة والسرور - يوجب أن يدخل الجنة الكفار ويريهم ما فيها من الحور والولدان ويطعمهم من ثمارها ويسقيهم من شرابها ثم يمنعهم من ذلك ليعرفهم قدر ما منعوا منه ويكثر تحسرهم وتلهفهم على منع ذلك بعد العلم بفضيلته .

                و " العمدة " قوله سبحانه : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فإنه يعم حجبهم عن ربهم في جميع ذلك اليوم وذلك اليوم { يوم يقوم الناس لرب العالمين } وهو يوم القيامة فلو قيل : إنه يحجبهم في حال دون حال لكان تخصيصا للفظ بغير موجب ولكان فيه تسوية بينهم وبين المؤمنين ; فإن " الرؤية " لا تكون دائمة للمؤمنين والكلام خرج مخرج بيان عقوبتهم بالحجب وجزائهم به ; فلا يجوز أن يساويهم المؤمنون في عقاب ولا جزاء سواه ; فعلم أن الكافر محجوب على الإطلاق بخلاف المؤمن وإذا كانوا في عرصة [ ص: 502 ] القيامة محجوبين فمعلوم أنهم في النار أعظم حجبا وقد قال سبحانه وتعالى : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } وقال : { ونحشره يوم القيامة أعمى } وإطلاق وصفهم بالعمى ينافي " الرؤية " التي هي أفضل أنواع الرؤية . فبالجملة فليس مقصودي بهذه الرسالة الكلام المستوفي لهذه المسألة فإن العلم كثير وإنما الغرض بيان أن هذه " المسألة " ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعارا ويوجب تفريق القلوب وتشتت الأهواء . وليست هذه " المسألة " فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة ; فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة واتباع وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم - والناس بعدهم - في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا وقالوا فيها كلمات غليظة كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية . ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجرا ولا تقاطعا .

                وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواما من أهل السنة في " مسألة الشهادة للعشرة بالجنة " حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات وكان أحمد وغيره يرون الشهادة ولم يهجروا من امتنع من الشهادة ; إلى مسائل نظير هذه كثيرة . والمختلفون في هذه " المسألة " أعذر من غيرهم أما " الجمهور " فعذرهم [ ص: 503 ] ظاهر كما دل عليه القرآن وما نقل عن السلف ; وأن عامة الأحاديث الواردة في " الرؤية " لم تنص إلا على رؤية المؤمنين وأنه لم يبلغهم نص صريح برؤية الكافر ووجدوا الرؤية المطلقة قد صارت دالة على غاية الكرامة ونهاية النعيم . وأما المثبتون عموما وتفصيلا فقد ذكرت عذرهم وهم يقولون : قوله : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } هذا الحجب بعد المحاسبة ; فإنه قد يقال : حجبت فلانا عني وإن كان قد تقدم الحجب نوع رؤية ; وهذا حجب عام متصل وبهذا الحجب يحصل الفرق بينهم وبين المؤمنين ; فإنه سبحانه وتعالى يتجلى للمؤمنين في عرصات القيامة بعد أن يحجب الكفار كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة ثم يتجلى لهم في الجنة عموما وخصوصا دائما أبدا سرمدا .

                ويقولون : إن كلام السلف مطابق لما في القرآن ثم إن هذا النوع من " الرؤية " الذي هو عام للخلائق قد يكون نوعا ضعيفا ليس من جنس " الرؤية " التي يختص بها المؤمنون ; فإن " الرؤية " أنواع متباينة تباينا عظيما لا يكاد ينضبط طرفاها . وهنا آداب تجب مراعاتها : - منها : أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره وإن كان يعتقد أحد الطرفين ; فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية ; دون الساكت فهذه أولى . [ ص: 504 ] ومن ذلك : أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارا يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم ; فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله . وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام عن الفتن ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به ; بخلاف الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة فإن الإيمان بذلك فرض واجب ; لما قد تواتر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة .

                ومن ذلك : أنه ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم من غير تقييد لوجهين : ( أحدهما : أن " الرؤية المطلقة " قد صار يفهم منها الكرامة والثواب ففي إطلاق ذلك إيهام وإيحاش وليس لأحد أن يطلق لفظا يوهم خلاف الحق إلا أن يكون مأثورا عن السلف وهذا اللفظ ليس مأثورا . ( الثاني : أن الحكم إذا كان عاما في تخصيص بعضه باللفظ خروج عن القول الجميل فإنه يمنع من التخصيص ; فإن الله خالق كل شيء ومريد لكل حادث ومع هذا يمنع الإنسان أن يخص ما يستقذر من المخلوقات وما يستقبحه الشرع من الحوادث بأن يقول على الانفراد : يا خالق الكلاب ويا مريدا للزنا ونحو ذلك . بخلاف ما لو قال : يا خالق كل شيء ويا من كل شيء يجري بمشيئته [ ص: 505 ] فكذلك هنا لو قال : ما من أحد إلا سيخلو به ربه وليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان أو قال : إن الناس كلهم يحشرون إلى الله فينظر إليهم وينظرون إليه كان هذا اللفظ مخالفا في الإيهام للفظ الأول . فلا يخرجن أحد عن الألفاظ المأثورة وإن كان قد يقع تنازع في بعض معناها فإن هذا الأمر لا بد منه فالأمر كما قد أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم والخير كل الخير في اتباع السلف الصالح والاستكثار من معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه فيه والاعتصام بحبل الله وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة ومجانبة ما يدعو إلى الخلاف والفرقة ; إلا أن يكون أمرا بينا قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من المجانبة فعلى الرأس والعين .

                وأما إذا اشتبه الأمر هل هذا القول أو الفعل مما يعاقب صاحبه عليه أو ما لا يعاقب ؟ فالواجب ترك العقوبة ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم { ادرءوا الحدود بالشبهات فإنك إن تخطئ في العفو خير من أن تخطئ في العقوبة } رواه أبو داود ولا سيما إذا آل الأمر إلى شر طويل وافتراق أهل السنة والجماعة ; فإن الفساد الناشئ في هذه الفرقة أضعاف الشر الناشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية . وإذا اشتبه على الإنسان أمر فليدع بما رواه مسلم في صحيحه - { عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم [ ص: 506 ] الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } . وبعد هذا : فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل ويرزقنا اتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا ويجمع على الهدى شملنا ويقرن بالتوفيق أمرنا ويجعل قلوبنا على قلب خيارنا ويعصمنا من الشيطان ويعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .

                وقد كتبت هذا الكتاب وتحريت فيه الرشد وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ومع هذا فلم أحط علما بحقيقة ما بينكم ولا بكيفية أموركم وإنما كتبت على حسب ما فهمت من كلام من حدثني والمقصود الأكبر إنما هو إصلاح ذات بينكم وتأليف قلوبكم . وأما استيعاب القول في " هذه المسألة " وغيرها وبيان حقيقة الأمر فيها فربما أقول أو أكتب في وقت آخر إن رأيت الحاجة ماسة إليه فإني في هذا الوقت رأيت الحاجة إلى انتظام أمركم أوكد . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية