الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، راكبا على البراق ، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل [ ص: 31 ] هناك ، وصلى بالأنبياء إماما ، وربط البراق بحلقة باب المسجد .

وقد قيل : إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ، ولم يصح ذلك عنه البتة .

ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه ، وأرواح الأشقياء عن يساره ، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما ، فردا عليه ورحبا به ، وأقرا بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف فسلم عليه ، فرد عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس فسلم عليه ، ورحب به وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الخامسة ، فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه ، ورحب به وأقر بنبوته ، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ، فدنا منه حتى كان [ ص: 32 ] ( قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ، وفرض عليه خمسين صلاة . فرجع حتى مر على موسى فقال له : بم أمرت ؟ قال : بخمسين صلاة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار أن نعم إن شئت ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى ، وهو في مكانه . هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ، فوضع عنه عشرا ، ثم أنزل حتى مر بموسى فأخبره ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل حتى جعلها خمسا ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربي ، ولكن أرضى وأسلم ، فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي .

[ ص: 33 ] واختلف الصحابة : هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصح عنه أنه قال : ( رآه بفؤاده ) .

وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقالا : إن قوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) [ النجم : 13 ] إنما هو جبريل .

وصح عن ( أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ فقال : نور أنى أراه ) ، أي : حال بيني وبين رؤيته النور ، كما قال في لفظ آخر : ( رأيت نورا ) .

وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس : " إنه رآه " مناقضا لهذا ، ولا قوله : ( رآه بفؤاده ) ، وقد صح عنه أنه قال : " رأيت ربي تبارك وتعالى " ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة [ ص: 34 ] لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه ، وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، وقال : نعم رآه حقا ، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد ، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى : إنه رآه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه ، ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده ، فحكيت عنه روايتان ، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه : أنه رآه بعيني رأسه ، وهذه نصوص أحمد موجودة ، ليس فيها ذلك .

وأما قول ابن عباس : أنه رآه بفؤاده مرتين ، فإن كان استناده إلى قوله تعالى : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ النجم : 11 ] ثم قال : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) [ النجم : 13 ] والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها ، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله : ( رآه بفؤاده ) ، والله أعلم .

وأما قوله تعالى في سورة النجم : ( ثم دنا فتدلى ) [ النجم : 8 ] فهو غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء ، فإن الذي في ( سورة النجم ) هو دنو جبريل وتدليه ، كما قالت عائشة وابن مسعود ، والسياق يدل عليه فإنه قال : ( علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] وهو جبريل : ( ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى ) [ النجم : 6 - 8 ] فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة ، أي : القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنا فتدلى ، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى ، فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتدليه ، ولا تعرض في ( سورة النجم ) لذلك ، بل فيها أنه رآه نزلة [ ص: 35 ] أخرى عند سدرة المنتهى ، وهذا هو جبريل ، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية