الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها : أن المسلم إذا قتل نفسه فهو من أهل النار لقوله صلى الله عليه وسلم في قزمان الذي أبلى يوم أحد بلاء شديدا ، فلما اشتدت به الجراح نحر نفسه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( هو من أهل النار ) .

[ ص: 191 ] ومنها : أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل ، ولا يصلى عليه ولا يكفن في [ ص: 192 ] غير ثيابه بل يدفن فيها بدمه وكلومه ، إلا أن يسلبها ، فيكفن في غيرها .

ومنها : أنه إذا كان جنبا غسل كما غسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر .

ومنها : أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ، ولا ينقلوا إلى مكان آخر ، فإن قوما من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة ، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر برد القتلى إلى مصارعهم ، قال جابر : ( بينا أنا في النظارة إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح ، فدخلت بهما المدينة لندفنهما في مقابرنا ، [ ص: 193 ] وجاء رجل ينادي : ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى ، فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت . قال : فرجعنا بهما ، فدفناهما في القتلى حيث قتلا ، فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل ، فقال : يا جابر ، والله لقد أثار أباك عمال معاوية ، فبدا ، فخرج طائفة منه ، قال : فأتيته ، فوجدته على النحو الذي تركته لم يتغير منه شيء . قال : فواريته ، فصارت سنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ) .

ومنها : جواز دفن الرجلين أو الثلاثة في القبر الواحد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر ، ويقول : أيهم أكثر أخذا للقرآن ، فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد ) .

ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام ، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فقال : ( ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد ) ، [ ص: 194 ] ثم حفر عنهما بعد زمن طويل ، ويد عبد الله بن عمرو بن حرام على جرحه كما وضعها حين جرح ، فأميطت يده عن جرحه ، فانبعث الدم فردت إلى مكانها ، فسكن الدم .

وقال جابر : ( رأيت أبي في حفرته حين حفر عليه كأنه نائم ، وما تغير من حاله قليل ولا كثير . وقيل له : أفرأيت أكفانه ؟ فقال : إنما دفن في نمرة ، خمر وجهه ، وعلى رجليه الحرمل ، فوجدنا النمرة كما هي ، والحرمل على رجليه على هيئته ، وبين ذلك ست وأربعون سنة ) .

وقد اختلف الفقهاء في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفن شهداء أحد في ثيابهم ، هل هو على وجه الاستحباب والأولوية ، أو على وجه الوجوب ؟ على قولين : الثاني : أظهرهما وهو المعروف عن أبي حنيفة ، والأول هو المعروف عن أصحاب الشافعي وأحمد ، فإن قيل : فقد روى يعقوب بن شيبة وغيره بإسناد جيد ، أن [ ص: 195 ] صفيه أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة ، فكفنه في أحدهما ، وكفن في الآخر رجلا آخر .

قيل : حمزة كان الكفار قد سلبوه ، ومثلوا به ، وبقروا عن بطنه ، واستخرجوا كبده ؛ فلذلك كفن في كفن آخر . وهذا القول في الضعف نظير قول من قال : يغسل الشهيد ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع .

ومنها : أن شهيد المعركة لا يصلى عليه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد ، ولم يعرف عنه أنه صلى على أحد ممن استشهد معه في مغازيه ، وكذلك خلفاؤه الراشدون ، ونوابهم من بعدهم .

فإن قيل : فقد ثبت في " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم ( خرج يوما ، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر ) .

وقال ابن عباس : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد ) .

قيل : أما صلاته عليهم ، فكانت بعد ثماني سنين من قتلهم قرب موته ، كالمودع لهم ، ويشبه هذا خروجه إلى البقيع قبل موته يستغفر لهم ، كالمودع للأحياء والأموات ، فهذه كانت توديعا منه لهم ، لا أنها سنة الصلاة على الميت ، ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثماني سنين ، لا سيما عند من [ ص: 196 ] يقول لا يصلى على القبر أو يصلى عليه إلى شهر .

ومنها : أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج يجوز له الخروج إليه ، وإن لم يجب عليه كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج .

ومنها : أن المسلمين إذا قتلوا واحدا منهم في الجهاد يظنونه كافرا ، فعلى الإمام ديته من بيت المال ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة ، فامتنع حذيفة من أخذ الدية ، وتصدق بها على المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية