الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : في بيان أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا ؟ اعلم أن الخوض في هذه المسألة مسبوق بمقدمات عالية من المباحث الإلهية .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الأولى : أنه تعالى مخالف لخلقه ، لذاته المخصوصة لا لصفة ، والدليل عليه أن ذاته من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر الصفات إن كانت مخالفة لخلقه فهو المطلوب ، وإن كانت مساوية لسائر الذوات فحينئذ تكون مخالفة ذاته لسائر الذوات لا بد وأن يكون لصفة زائدة ، فاختصاص ذاته بتلك الصفة التي لأجلها وقعت المخالفة إن لم يكن لأمر البتة فحينئذ لزم رجحان الجائز لا لمرجح ، وإن كان لأمر آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان ، فإن قيل هي قولنا فهذا يقتضي أن تكون خصوصية تلك الصفة لصفة أخرى ويلزم منه التسلسل وهو محال .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الثانية : أنا نقول : إنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ؛ لأن سلب الجسمية والجوهرية مفهوم سلبي ، وذاته المخصوصة أمر ثابت والمغايرة بين السلب والثبوت معلوم بالضرورة ، وأيضا فذاته المخصوصة ليست عبارة عن نفس القادرية والعالمية ؛ لأن المفهوم من القادرية والعالمية مفهومات إضافية ، وذاته ذات قائمة بنفسها ، والفرق بين الموجود القائم بالنفس وبين الاعتبارات النسبية والإضافية معلوم بالضرورة .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الثالثة : في بيان أنا في هذا الوقت لا نعرف ذاته المخصوصة ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنا إذا رجعنا إلى عقولنا وأفهامنا لم نجد عند عقولنا من معرفة الله تعالى إلا أحد أمور أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            إما العلم بكونه موجودا ، وإما العلم بدوام وجوده ، وإما العلم بصفات الجلال وهي الاعتبارات السلبية ، وإما العلم بصفات الإكرام وهي الاعتبارات الإضافية ، وقد ثبت بالدليل أن ذاته المخصوصة مغايرة لكل واحد من هذه الأربعة ، فإنه ثبت بالدليل أن حقيقته غير وجوده ، وإذا كان كذلك كانت حقيقته أيضا مغايرة لدوام وجوده ، وثبت أن حقيقته غير سلبية وغير إضافية ، وإذا كان لا معلوم عند الخلق إلا أحد هذه الأمور الأربعة وثبت أنها مغايرة لحقيقته المخصوصة ، ثبت أن حقيقته المخصوصة غير معلومة للبشر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الاستقراء التام يدل على أنا لا يمكننا أن نتصور أمرا من الأمور إلا من طرق أمور أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 99 ]

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها الأشياء التي أدركناها بإحدى هذه الحواس الخمس .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها الأحوال التي ندركها من أحوال أبداننا كالألم واللذة والجوع والعطش والفرح والغم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها الأحوال التي ندركها بحسب عقولنا مثل علمنا بحقيقة الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها الأحوال التي يدركها العقل والخيال من تلك الثلاثة ، فهذه الأشياء هي التي يمكننا أن نتصورها وأن ندركها من حيث هي هي ، فإذا ثبت هذا وثبت أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مغايرة لهذه الأقسام ، ثبت أن حقيقته غير معقولة للخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن حقيقته المخصوصة علة لجميع لوازمه من الصفات الحقيقية والإضافية والسلبية والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، ولو كانت حقيقته المخصوصة معلومة لكانت صفاته بأسرها معلومة بالضرورة ، وهذا معدوم فذاك معدوم ، فثبت أن حقيقة الحق غير معقولة للبشر .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الرابعة : في بيان أنها وإن لم تكن معقولة للبشر فهل يمكن أن تصير معقولة لهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الخامسة : في بيان أن البشر وإن امتنع في عقولهم إدراك تلك الحقيقة المخصوصة فهل يمكن ذلك العرفان في حق جنس الملائكة أو في حق فرد من أفرادهم ؟ الإنصاف أن هذه المباحث صعبة ، والعقل كالعاجز القاصر في الوفاء بها كما ينبغي ، وقال بعضهم : عقول المخلوقات ومعارفهم متناهية ، والحق تعالى غير متناه ، والمتناهي يمتنع وصوله إلى غير المتناهي ولأن أعظم الأشياء هو الله تعالى ، وأعظم العلوم علم الله سبحانه وتعالى ، وأعظم الأشياء لا يمكن معرفته إلا بأعظم العلوم ، فعلى هذا لا يعرف الله إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة السادسة : اعلم أن معرفة الأشياء على نوعين : معرفة عرضية ومعرفة ذاتية : أما المعرفة العرضية فكما إذا رأينا بناءا علمنا بأنه لا بد له من بان ، فأما أن ذلك الباني كيف كان في ماهيته ، وأن حقيقته من أي أنواع الماهيات ، فوجود البناء لا يدل عليه ، وأما المعرفة الذاتية فكما إذا عرفنا اللون المعين ببصرنا ، وعرفنا الحرارة بلمسنا ، وعرفنا الصوت بسمعنا ، فإنه لا حقيقة للحرارة والبرودة إلا هذه الكيفية الملموسة ، ولا حقيقة للسواد والبياض إلا هذه الكيفية المرئية ، إذا عرفت هذا فنقول : أنا إذا علمنا احتياج المحدثات إلى محدث وخالق فقد عرفنا الله تعالى معرفة عرضية إنما الذي نفيناه الآن هو المعرفة الذاتية ، فلتكن هذه الدقيقة معلومة حتى لا تقع في الغلط .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة السابعة : اعلم أن إدراك الشيء من حيث هو هو - أعني ذلك النوع الذي سميناه بالمعرفة الذاتية - يقع في الشاهد على نوعين : أحدهما : العلم والثاني : الإبصار فإنا إذا أبصرنا السواد ثم غمضنا العين فإنا نجد تفرقة بديهية بين الحالتين ، فعلمنا أن العلم غير ، وأن الإبصار غير ، إذا عرفت هذا فنقول : بتقدير أنه يقال يمكن حصول المعرفة الذاتية للخلق فهل لتلك المعرفة ولذلك الإدراك طريق واحد فقط أو يمكن وقوعه على طريقين مثل ما في الشاهد من العلم والإبصار ؟ هذا أيضا مما لا سبيل للعقل إلى القضاء به والجزم فيه ، وبتقدير أن يكون هناك طريقان أحدهما المعرفة والثاني الإبصار فهل الأمر هناك مقصور على هذين الطريقين أو هناك طرق كثيرة ومراتب مختلفة ؟ كل هذه المباحث مما لا يقدر العقل على الجزم فيها البتة ، فهذا هو الكلام في هذه المقدمات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية