الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الباب الثالث

                                                                                                                                                                                                                                            في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة ، وفيه مسائل

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : ( الحمد لله ) فكأن سائلا يقول : الحمد لله منبئ عن أمرين : أحدهما : وجود الإله ، والثاني : كونه مستحقا للحمد ، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق للحمد ؟ ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين ، فأجاب عن السؤال الأول بقوله : ( رب العالمين ) وأجاب عن السؤال الثاني بقوله : ( الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، لا جائز أن يقال : العلم بوجود الإله ضروري ؛ لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة ، فبقي أن يكون العلم نظريا ، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل ، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السماوات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره ، وموجود يوجده ، ومرب يربيه ، ومبق يبقيه ، فكان قوله : ( رب العالمين ) إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم فيه لطائف : اللطيفة الأولى : أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله ، فقوله : ( رب العالمين ) إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه ، محتاج في وجوده إلى إيجاده ، وفي بقائه إلى إبقائه ، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر ، كما قال تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء : 44 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            اللطيفة الثانية : أنه تعالى لم يقل : الحمد لله خالق العالمين ، بل قال : ( الحمد لله رب العالمين ) والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها ، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا ؟ فقال قوم : الشيء حال بقائه يستغني عن السبب ، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه ، فقوله : ( رب العالمين ) تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها ، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه ، أما [ ص: 150 ] افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف ، فخصه سبحانه بالذكر تنبيها على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه .

                                                                                                                                                                                                                                            اللطيفة الثالثة : أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن ، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه ، فقوله : ( رب العالمين ) تنبيه على أن كل موجود سواه ، فإنه دليل على إلهيته .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله : ( الحمد لله ) فأولها : سورة الأنعام وهو قوله : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] واعلم أن المذكور هاهنا قسم من أقسام قوله : ( رب العالمين ) لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله ، والسماوات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله ، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة ، وأيضا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السماوات والأرض ؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربا للعالمين ، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى ، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه ، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : سورة الكهف ، وهو قوله : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف ، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات ، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط ، وقوله في أول سورة الفاتحة : ( رب العالمين ) إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السماوات والأرضين ، فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعا من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : سورة سبأ ، وهو قوله : ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) [ سبأ : 1 ] فبين في أول سورة الأنعام أن السماوات والأرض له ، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السماوات والأرض له ، وهذا أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : ( الحمد لله رب العالمين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) [ فاطر : 1 ] والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقا لها ، والخلق هو التقدير ، والمذكور في هذه السورة كونه فاطرا لها ومحدثا لذواتها ، وهذا غير الأول إلا أنه أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : ( الحمد لله رب العالمين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقا للسماوات والأرض ذكر كونه جاعلا للظلمات والنور ، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض ذكر كونه جاعلا الملائكة رسلا ، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السماوات والأرض جعل الأنوار والظلمات ، وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السماوات والأرض جعل الروحانيات ، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله : ( الحمد لله رب العالمين ) فهذا هو التنبيه على أن قوله : ( رب العالمين ) يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية