الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل السادس

                                                                                                                                                                                                                                            في الكبرياء والعظمة

                                                                                                                                                                                                                                            أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان : أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له ، والخلاء الذي لا غاية له ، وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد ، كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل ، فالأول والآخر صفة الزمان ، والظاهر والباطن صفة المكان ، وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم ، فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا ، ووسع الزمان أولا وآخرا ، وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزها عن المكان والزمان .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : الحق سبحانه وتعالى له عرش وكرسي ، فعقد المكان بالكرسي فقال : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) [ البقرة : 255 ] وعقد الزمان بالعرش فقال : ( وكان عرشه على الماء ) [ هود : 7 ] لأن جري الزمان يشبه جري الماء ، فلا مكان وراء الكرسي ، ولا زمان وراء العرش ، فالعلو صفة الكرسي وهو قوله : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) [ البقرة : 255 ] والعظمة صفة العرش وهو قوله : ( فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) [ التوبة : 129 ] وكمال العلو والعظمة لله كما قال : ( ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) [ البقرة : 255 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال ، إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو ، وفوقهما درجة الكبرياء ، قال تعالى : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري . ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار ، وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال ، وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات ، وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية ، فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام : ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ، وقال : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 27 ] وقال : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 78 ] إذا عرفت هذا [ ص: 225 ] الأصل فاعلم أن المصلي إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال الله في صفتهم : ( يريدون وجهه ) [ الكهف : 28 ] ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس ، ولهذا التطهير مراتب :

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الأولى : التطهير من دنس الذنوب بالتوبة ، كما قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ) [ التحريم : 8 ] ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها ، ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله ، ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته ، ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى الله ، وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوتة كأنها غير متناهية ، كما قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) [ الروم : 30 ] فإذا أردت أن تكون من جملة من قال الله فيهم : ( يريدون وجهه ) [ الكهف : 28 ] فقم قائما واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بأن تبتدئ من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية ، ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره ، ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء ، ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها ، ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم ، ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية ، واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ، ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السماوات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام : " ما في السماوات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد " واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش والكرسي ، ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [ المدثر : 31 ] فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل : الله أكبر ، وتريد بقولك " الله " الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها ، وتريد بقولك " أكبر " أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها ، بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها ، فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة الله أكبر .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في تفسير هذا التكبير : أنه عليه الصلاة والسلام قال : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، فتقول : الله أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن يكون المعنى الله أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم . قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : التوحيد أن لا تتوهمه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن يكون المعنى الله أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته ، فطاعاتهم قاصرة عن خدمته ، وثناؤهم قاصر عن كبريائه ، وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادئ ميادين جلال الله فضلا عن أن تبلغ الغور والمنتهى ، ونعم ما قال الشاعر : [ ص: 226 ]


                                                                                                                                                                                                                                            أساميا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها



                                                                                                                                                                                                                                            ومن دعوات رسول الله عليه السلام وثنائه على الله : لا ينالك غوص الفكر ، ولا ينتهي إليك نظر ناظر ، ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك ، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك . وإذا قلت الله أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال الله ، وقل سبحانك اللهم وبحمدك ، ثم قل : وجهت وجهي ، ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة ، وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية ، وتصل إلى الشريعة ، ومنها إلى الطريقة ، ومنها إلى الحقيقة ، وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين ، ودركات الملعونين والمردودين والضالين ، فإذا قلت : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فأبصر به الدنيا إذ باسمه قامت السماوات والأرضون ، وإذا قلت : ( الحمد لله رب العالمين ) أبصرت به الآخرة ، إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] وإذا قلت : ( الرحمن الرحيم ) فأبصر به عالم الجمال ، وهو الرحمة والفضل والإحسان ، وإذا قلت : ( مالك يوم الدين ) فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت : ( إياك نعبد ) فأبصر به عالم الشريعة ، وإذا قلت : ( وإياك نستعين ) فأبصر به الطريقة ، وإذا قلت : ( اهدنا الصراط المستقيم ) فأبصر به الحقيقة ، وإذا قلت : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) فأبصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وإذا قلت : ( غير المغضوب عليهم ) فأبصر به مراتب فساق أهل الآفاق ، وإذا قلت : ( ولا الضالين ) فأبصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية ، بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ، ولنفسك بالذلة والمسكنة ، وقل : الله أكبر ، ثم انزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة ، فقل : سبحان ربي العظيم ، وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش ، ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم ، ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة الله كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة الله ؟ ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم ، وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى ، ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها ، فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانيا ، وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل : سمع الله لمن حمده فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام : " لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم " .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف ، وهذا المقام مقام الشفاعة ، وهما متباينان .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى ؛ وذلك لأن السجود أكثر تواضعا من الركوع ، لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة وهو [ ص: 227 ] الأعلى - والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة ، روي أن لله تعالى ملكا تحت العرش اسمه حزقيل أوحى الله إليه : أيها الملك طر ، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني ، فأوحى الله إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش ، فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فما الحكمة في السجدتين ؟ قلنا : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن السجدة الأولى للأزل والثانية للأبد ، والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد ، وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له ، وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانيا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قيل : اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة ، وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية : بقاء الكل بإبقاء الله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة الله ، والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح لله تعالى كما قال : ( ألا له الخلق والأمر ) [ الأعراف : 54 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته ، والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الناس يفهمون من العظمة كبر الجثة ، ويفهمون من العلو علو الجهة ، ويفهمون من الكبر طول المدة ، وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام ، فهو عظيم لا بالجثة ، عال لا بالجهة ، كبير لا بالمدة ، وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد ، فكيف يكون عظيما بالجثة وهو منزه عن الحجمية ؟ وكيف يكون عاليا بالجهة وهو منزه عن الجهة ؟ وكيف يكون كبيرا بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة ، فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيرا بالمدة ؟ فهو تعالى عال على المكان لا بالمكان ، وسابق على الزمان لا بالزمان ، فكبرياؤه كبرياء عظمة ، وعظمته عظمة علو ، وعلوه علو جلال ، فهو أجل من أن يشابه المحسوسات ويناسب المخيلات ، وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون ، وأعظم مما يصفه الواصفون ، وأعلى مما يمجده الممجدون ، فإذا صور لك حسك مثالا فقل : الله أكبر ، وإذا عين خيالك صورة فقل : سبحانك الله وبحمدك ، وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ، وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشا وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) [ الصافات : 180 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية