الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

إذا احتلم ولم ير الماء فلا غسل عليه ، وإن استيقظ فرأى الماء فعليه الغسل ، وإن استيقظ فرأى بللا لا يعلم مني هو أم مذي ، فإن ذكر احتلاما لزمه الغسل ، سواء تقدم نومه بفكر أو مسيس أم لا ؛ لأن هناك سببا قريبا يضاف الحكم إليه ، وإن لم يذكر احتلاما لزمه أيضا الغسل ، إلا أن يتقدمه بفكر أو نظر أو لمس ، أو تكون به إبردة فلا غسل عليه . وعنه ما يدل على أن لا غسل عليه مطلقا ؛ لأنه يجوز أن يكون منيا وأن يكون مذيا ، وهو طاهر بيقين ، فلا تزول طهارته بالشك .

والصحيح الأول ؛ لما روت عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال : " يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل قال : " لا غسل عليه " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، واحتج به أحمد ؛ ولأن هذا الماء لا بد لخروجه من [ ص: 354 ] سبب ، وليس هناك سبب ظاهر إلا الاحتلام ، والماء الذي يخرج بالاحتلام في الغالب إنما هو المني ، فألحقت هذه الصورة المجهولة بالأعم الأغلب ؛ ولهذا إذا كان هناك سبب ظاهر يضاف إليه مثل لمس أو تفكير أو إبردة ، أضفناه إليه ، وجعلناه مذيا ؛ لأن الأصل عدم ما سواه ، ومن رأى في ثوبه الذي لا ينام فيه غيره منيا لزمه الغسل ، ويعيد ما صلى بعد آخر نومة نامها فيه ، إلا أن يعلم أنه قبلها ، فيعيد من آخر نومة يمكن أنه منها ، وإن كان الرائي لذلك صبيا ، لزمه الغسل إن كان سنه ممن يمكن البلوغ وهو استكمال ثنتي عشرة سنة أو عشر سنين أو تسع سنين ، على اختلاف الوجوه الثلاثة ، فأما إن وجد اثنان منيا في ثوب ناما فيه ، فلا غسل على واحد منهما في المشهور ، وكذلك كل اثنين تيقن الحدث من أحدهما لا بعينه ؛ لأن كل واحد منهما مكلف باعتبار نفسه ، ولم يتحقق زوال طهارته ، كما لو قال أحدهما : إن كان هذا الطائر غرابا فزوجتي طالق ، وقال الآخر : إن لم يكن غرابا فزوجتي طالق ، وطار ولم يعلم ما هو ، لكن لا يأثم أحدهما صاحبه . وعنه : تلزمهما جميعا الطهارة ؛ لأنهما تيقنا حدث أحدهما ، وليس في أمرهما " بالغسل " كثير مشقة . فإن أحس بانتقال المني عند الشهوة فأمسك ذكره فلم يخرج ، وجب الغسل في المشهور من الروايتين .

وفي الأخرى : لا يجب ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا حذفت وفضخت ولم يوجد ذلك ، ولأنه ما لم يخرج فهو في حكم الباطن ، فلم يجب [ ص: 355 ] بتنقله فيه طهارة كالريح المتنقلة من المعدة إلى قريب المخرج . ووجه الأول أنه مني انعقد وأخذ في الدفق والخروج ، فأشبه ما لو خرج من الأقلف المرتتق إلى ما بين القلفة والحشفة ، كالمرأة إذا أنزلت ولم يخرج إلى ظاهر فرجها ؛ ولأن الانتقال مظنة الإنزال والخروج ، فأوجب الغسل كالتقاء الختانين وأولى منه ، لأن الانتقال لا يتخلف عنه الخروج ، بل لا بد أن يخرج ، بل ولا يعود إلى محله . ومعنى الحديث إذا أخذت في الحذف والفضخ ؛ لأنه إذا ظهر بعد ذلك وجب الغسل إجماعا ، ولا حذف ولا فضخ هذا يخالف الريح المترددة ، فإنه لا بد من ظهوره ، بخلاف الريح ، فإنها قد تعود إلى محلها . فإن قلنا : لا يجب الغسل ، فإذا خرج لزمه الغسل سواء كان قد اغتسل أو لم يغتسل قبل البول أو بعده ؛ لأنه مني انتقل بشهوة وخرج ، فلا بد أن يوجب الغسل ، كما لو خرج عقيب الانتقال ، بخلاف الذي ينتقل بلا شهوة ، وإذا قلنا : " يجب الغسل " فاغتسل ثم خرج منه فهو كما لو اغتسل لمني خرج بعضه ثم خرج باقيه ، والمشهور عنه أنه لا يوجب غسلا ثانيا حتى أن من أصحابنا من يجعله رواية واحدة ، لما روى سعيد عن ابن عباس أنه سئل عن الجنب يخرج منه المني بعد الغسل قال : " يتوضأ " وكذلك ذكره الإمام أحمد عن علي . ولأنه مني واحد فلا يوجب غسلين كما لو ظهر ، ولأن الموجب هو المني المقترن بالشهوة ، وهو واحد ، ولأن الثاني خارج عن غير شهوة فأشبه ما لو خرج لإبردة أو مرض ، وهذا تعليل الإمام أحمد ، فقال : " لا غسل فيه ؛ لأن الشهوة ماضية ، وإنما هو حدث ليس بجنابة أرجو أن يجزئه الوضوء " لأنه خارج من السبيل ، وعنه أنه يوجب الغسل ثانيا لأنه مني انتقل لشهوة [ ص: 356 ] فأوجب الغسل كالأول ، وكما لو خرج عقيب انتقاله ، وعنه إن خرج قبل البول اغتسل ، وإن خرج بعده لم يغتسل ؛ لأن ذلك يروى عن علي ، وقد ضعفه الإمام أحمد ، ولأن ما قبل البول هو بقية المني الأول وقد انتقل بشهوة وما بعد البول يجوز أن يكون بقية الأول ، ويجوز أن يكون غيره خرج لإبردة أو مرض ، وهو الأظهر ؛ لأن البول يدفع بقايا المني ، لأن مخرج المني تحت مخرج البول ، وبينهما حاجز رقيق ، فينعصر مخرج المني تحت مخرج البول ، فيخرج ما فيه ، والوجوب لا يثبت بالشك ، وعلى هذا التعليل فلا يصح مخرج هذه الرواية إلى المنتقل ، فإنه لا بد من خروجه قبل البول أو بعده ، ويمكن تعليله بأن ما خرج قبل البول يكون انتقاله إلى الذكر بدفق وشهوة كالخارج إلى باطن القلفة ، بخلاف ما لم يخرج " إلا " بعد البول ، فإنه حين انتقل إلى الذكر كان بغير شهوة ، فأشبه الخارج عن إبردة أو مرض . وقد روي عنه عكس هذه الرواية ؛ لأن ما بعد البول مني جديد ، بخلاف ما قبله ، فإنه بقية الأول ، فأما إن وجد سبب الخروج ولم يخرج فقسمان : أحدهما : أنه يحتلم ثم ينزل بعد الانتباه ، فيجب عليه الغسل ، نص عليه ، لكن إن خرج لشهوة وجب حينئذ ( وإن خرج بغير شهوة ثبتنا وجوبه حين الاحتلام على المشهور ؛ لأنه حينئذ انتقل بعد الانتباه وسكون الشهوة ، وقبل الخروج كان جنبا ولم يعلم ) وعلى قولنا : " لا يجب إلا بالخروج " يكون جنبا من حين خروجه .

[ ص: 357 ] والثاني : أن يجامع ولا ينزل فيغتسل ، ثم ينزل بعد ذلك ، فيجب عليه الغسل نص عليه . وهو على الطريقة المشهورة لأصحابنا محمول على ما إذا وجدت شهوة بعد الوطء حين الإنزال أو قبله ، فيكون المني قد انتقل بها وشهوة الجماع قصرت عنه ، فأما إذا لم تتجدد شهوة فهو كالمني المنتقل إذا خرج بعد انتقاله على ما تقدم ، وتحقيق هذه الطريقة أنه قد نص في رواية أخرى في هذه أنه إن خرج قبل البول يغتسل ، وإلا فلا ، وهذا يبين أنه لا فرق عنده في المني الخارج بعد الغسل بين أن يكون جماع أو بعد إنزال ، وكلامه في " هذه " المواضع ، وتعليله يقتضي ذلك ، وهو قول جمهور أصحابنا ، ومنهم من أوجبه مطلقا ، فعلى هذا ينبغي أن يقال بتكرر الوجوب فيما إذا خرج بعد انتقاله أو بعد وطئه ؛ لأنه مني تام قد خرج وانتقل بشهوة دون ما إذا خرج بعضه ثم خرجت بقيته حيث كان الثاني جزءا من الأول ، وعلى هذا يكون كل واحد من الانتقال والخروج سببا ، كما أن كل واحد من الوطء ، والإنزال سبب ويمكن على هذا أن يقال في المني الخارج بعد الانتباه هو الموجب ؛ لأنه لم يحبس ، بخلاف من أمسك ذكره ، فأما الوضوء من الخارج في جميع هذه الصور فلا بد منه ؛ لأنه خارج من السبيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية