الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

يحرم على المحدث الصلاة والطواف ومس المصحف ، فأما الصلاة فيحرم عليه فرضها ونفلها ، والسجود المجرد كسجود التلاوة ، والقيام المجرد وهو صلاة الجنازة ، ولا يصح منه سواء كان عالما بحدثه أو جاهلا به ، هذا إذا كان قادرا على الطهارة ، فأما العاجز فيذكر إن شاء الله تعالى في التيمم ، لما روى [ ص: 381 ] أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " متفق عليه .

وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول " رواه الجماعة إلا البخاري . وأما الطواف فهو محرم عليه أيضا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما الطواف بالبيت صلاة ، فإذا طفتم فأقلوا الكلام " رواه أحمد والنسائي .

لكن إذا خالف وطاف محدثا فهل يصح طوافه ؟ على روايتين ، أصحهما أنه لا يصح . وأما المصحف فإنه لا يمس منه موضع الكتابة ولا حاشيته ولا [ ص: 382 ] الجلد أو الدف أو الورق الأبيض المتصل به لا ببطن الكف ولا بظهره ولا شيء من جسده ؛ لأن في الكتاب الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " رواه مالك والأثرم والدارقطني وغيرهم .

وهو كتاب مشهور عند أهل العلم ، وقال مصعب بن سعد : " كنت أمسك المصحف على عهد سعد بن أبي وقاص ، فاحتككت ، فقال : لعلك مسست ذكرك فقلت : نعم ، فقال : قم فتوضأ " رواه مالك .

وذكر الإمام أحمد عن ابن عمر أنه قال : " لا تمس المصحف إلا على [ ص: 383 ] طهارة " . وعن عبد الرحمن بن يزيد قال : " كنا مع سلمان ، فخرج فقضى حاجته ثم جاء ، فقلت : يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات ، قال : إني لست أمسه لا يمسه إلا المطهرون " رواه الأثرم والدارقطني .

وكذلك جاء عن خلق من التابعين من غير خلاف يعرف عن الصحابة والتابعين ، وهذا يدل على أن ذلك كان معروفا بينهم ، وقد احتج كثير من أصحابنا على ذلك بقوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) كما ذكرنا عن سلمان وبنوا ذلك على أن الكتاب هو المصحف بعينه ، وأن قوله : ( لا يمسه ) صيغة خبر في معنى الأمر : لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره ، وردوا قول من حمله على الملائكة ، فإنهم جميعهم مطهرون ، وإنما يمسه ويطلع عليه بعضهم .

والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية ، وكذلك الملائكة مرادون من قوله : ( المطهرون ) لوجوه :

أحدهما : إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا : " لا يمس القرآن إلا طاهر " من أئمة المذاهب صرحوا بذلك ، وشبهوا هذه الآية بقوله : ( كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ) .

وثانيها : أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب ، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه ، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 384 ] وثالثها : أنه قال : ( في كتاب مكنون ) والمكنون : المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلين ، فهذه صفة اللوح المحفوظ .

ورابعها : أن قوله : ( لا يمسه إلا المطهرون ) صفة للكتاب ، ولو كان معناها الأمر لم يصح الوصف بها ، وإنما يوصف بالجملة الخبرية .

وخامسها : أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل : " فلا يمسه " ؛ لتوسط الأمر بما قبله .

وسادسها : أنه لو قال : " المطهرون " وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم ، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل : المتطهرون .

كما قال تعالى : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) .

وقال تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) .

وسابعها : أن هذا مسوق لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه ، وذلك بالأمر الذي قد ثبت واستقر أبلغ منه بما يحدث ، ويكون نعم الوجه في هذا - والله أعلم - أن القرآن الذي في اللوح المحفوظ هو القرآن الذي في المصحف كما أن الذي في هذا المصحف هو الذي في هذا المصحف بعينه ، سواء كان المحل ورقا أو أديما أو حجرا أو لحافا ، فإذا كان من حكم الكتاب الذي في السماء أن لا يمسه إلا المطهرون وجب أن يكون الكتاب الذي في الأرض كذلك ؛ لأن حرمته كحرمته ، أو يكون الكتاب اسم جنس يعم كل ما فيه القرآن ، سواء كان في السماء أو الأرض ، وقد أوحى إلى ذلك قوله تعالى : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ) وكذلك قوله تعالى : ( في صحف مكرمة [ ص: 385 ] مرفوعة مطهرة ) فوصفها أنها مطهرة ، فلا يصلح للمحدث مسها ، وكذلك لا يجوز أن يمس بعضو عليه نجاسة ، ولو غسل المتوضئ بعض أعضائه لم يجز له مسها حتى يكمل طهارته ، ولو كانت النجاسة على عضو جاز مسه بغيره ؛ لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها ، ويجوز بالتيمم حيث يشرع كما يجوز بالتوضؤ ، فأما إن حمله بعلاقته أو بحائل له منفصل منه لا يتبعه في الوصية والإقرار وغيرهما كغلافه أو حائل مانع للحامل كحمله في كمه من غير مس ، أو على رأسه ، أو في ثوبه ، أو تصفحه بعود أو مسه به - جاز في ظاهر المذهب . وعنه لا يجوز ؛ لأنه إنما منع من مسه تعظيما لحرمته ، واذا تمكن من ذلك بحائل زال التعظيم ، وحكى بعض أصحابنا رواية أنه إنما يحرم مسه بكمه وما يتصل به ؛ لأن كمه وثيابه متصلة به عادة ، فأشبهت أعضاءه بخلاف العود والغلاف ، وحكى الآمدي رواية يجوز حمله بعلاقته وفي غلافه دون تصفحه بكمه أو عود . ولنا أنه لم يمسه ، فيبقى على أصل الإباحة لا سيما ومفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يمس القرآن إلا طاهر " جواز ما سوى المباشرة ، وليس المس من وراء حائل كالمباشرة بدليل نقض الوضوء وانتشار حرمة المصاهر به والفدية في الحج وغير ذلك ، والعلاقة وإن اتصلت به فليست منه ، إنما يراد لتعليقه ، وهو مقصود زائد على مقصود المصحف ، بخلاف الجلد فإنه يراد لحفظ ورق المصحف وصونه ، وتجوز كتابته من غير مس الصحيفة كتصفحه بعود ، ولأن الصحابة استكتبوا أهل الحيرة المصاحف ، وقيل : لا يجوز الكتابة وإن أجزنا تقليبه بالعود ، وقيل : يجوز للمحدث دون الجنب كالتلاوة .

وما فيه شيء من القرآن حكمه حكم المصحف إن كان مفردا ، فإن كتب مع القرآن غيره فالحكم للأغلب ، فيجوز مس كتب التفسير والحديث والفقه والرسائل التي فيها شيء من القرآن في المشهور عنه ؛ لأنها ليست مصحفا [ ص: 386 ] وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الكتاب بكتاب فيه قرآن ، وكان يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي " بسم الله الرحمن الرحيم " ولأن ما فيها من القرآن لا يثبت لها حرمة المصحف ، بدليل جواز بيعها وشرائها وعموم الحاجة إلى مسها ، ويجوز مس ما كتب فيه المنسوخ والتوراة والإنجيل ، في المشهور من الوجهين ، وكذلك مس ما فيه الأحاديث المأثورة عن الله تعالى ؛ لأن ذلك ليس هو القرآن ، وفي مس الدراهم المكتوب عليها القرآن روايتان ، وفي مس الصبيان ألواحهم المكتوب فيها القرآن وجهان ، وقيل روايتان ، ووجه الرخصة عموم الحاجة إلى ذلك ، ولا يجوز تمليكه من كافر ولا السفر به إلى بلادهم ؛ لما روى عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو " رواه أحمد ومسلم ، ولو ملك الذمي مصحفا بالإرث ألزم بإزالة ملكه عنه ؛ لأنهم يتدينون بانتهاكه وانتقاص حرمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية