الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل :

في خصال الفطرة روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خمس من الفطرة: الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار ) رواه الجماعة .

[ ص: 234 ] وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتفاض الماء يعني الاستنجاء ، قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ) رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي ، قال أبو داود : وقد روي عن ابن عباس نحو حديث عائشة قال : ( خمس كلها في الرأس وذكر منها الفرق ) وجميع هذه الخصال مقصودها النظافة والطهارة وإزالة ما يجمع الوسخ والدرن من الشعور والأظفار والجلد .

وأما قص الشارب، فقال زيد بن أرقم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يأخذ شاربه فليس منا ) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس ) رواه أحمد ومسلم .

[ ص: 235 ] وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب ) متفق عليه ، وفي رواية البخاري : " كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه " ، وتحصل السنة بقبضة حتى يبدو الإطار وهو طرف الشفة ، وكلما أخذ فوق ذلك فهو أفضل، نص عليه ، ولا يستحب حلقه؛ لأن في لفظ البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى ) .

قال البخاري " وكان ابن عمر يحفي شاربه حتى ينظر إلى موضع الحلق " وروى حرب في مسائله عن عبد الله بن رافع قال : رأيت أبا سعيد الخدري وسلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله وابن عمر وأبا أسيد [ ص: 236 ] يجزون شواربهم أخا الحلق ، وأما إعفاء اللحية فإنه يترك ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه كما تقدم عن ابن عمر، وكذلك أخذ ما تطاير منها .

وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها ) رواه الترمذي ، وقال: حديث غريب ، فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها وأشد؛ لأنه من المثلة المنهي عنها وهي محرمة ، ويكره نتف الشيب وإزالته بمنقاش ونحوه؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن نتف الشيب ) رواه الخمسة، وفي رواية لأحمد وأبي داود : ( لا تنتفوا الشيب [ ص: 237 ] فإنه نور المسلم ، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة ورفعه بها درجة وحط عنه بها خطيئة ) .

فأما خضابه بالحمرة والصفرة فسنة مستحبة؛ لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ) رواه الجماعة .

قال عثمان بن عبد الله بن موهب : دخلنا على أم سلمة " فأخرجت إلينا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو مخضوب " رواه أحمد والبخاري وابن ماجه بالحناء والكتم ، وللبخاري عن ابن موهب أن أم سلمة أرته شعر النبي صلى الله عليه وسلم أحمر ، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم ) رواه الخمسة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

[ ص: 238 ] وعن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك ) رواه أبو داود والنسائي ، ويكره الخضاب بالسواد؛ لما روى جابر بن عبد الله قال : جيء بأبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن رأسه ثغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اذهبوا به إلى بعض نسائه فليغيره بشيء وجنبوه السواد ) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي؛ ولأن التسويد يشبه تكون الخلقة وذلك تزوير وتغيير لخلق الله ، فيكره كما كره وصل الشعر والنمص والتفلج .

وأما الاستحداد فهو استعمال الحديد في إزالة شعر العانة ولو قصه أو نتفه أو تنور جاز، والحلق أفضل، والأفضل في الإبط أن ينتفه ولو حلقه أو قصه أو نوره جاز أيضا ، ولو نور غير ذلك من شعر الساقين والفخذين جاز أيضا ، نص عليه ، لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى بدأ [ ص: 239 ] بعورته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله ، رواه ابن ماجه وفيه مقال لكن لا ينور عورته إلا هو أو من يحل له مسها من زوجة أو أمة .

قال أبو العباس النسائي : " ضربت لأبي عبد الله نورة ونورته بها فلما بلغ إلى عانته نورها هو " وقال نافع : " كنت أطلي ابن عمر فإذا بلغ عورته نورها هو بيده " رواه الخلال، وترك التنور أفضل، قال ابن عمر : " هو مما أحدثوا من النعيم " وأما قص الأظفار فمن السنة لإزالة فحشها ودفع ما يجتمع تحتها من وسخ الأرفاغ ونحوها، وقد ذكر إسحاق بن راهويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما لي لا أهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ) إلا أنه ينبغي الاقتصاد في قصها وألا يحيف ، نص عليه ، واحتج بحديث ذكره عن الحكم بن عمير قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نحفي من الأظفار في الجهاد ) وقال عمر : " وفروا الأظفار في أرض [ ص: 240 ] العدو فإنه سلاح " قال أحمد : هو يحتاج إليها في أرض العدو ، ألا ترى أنه إذا أراد الرجل أن يحل الحبل أو الشيء ولم يكن له أظفار لم يستطع ، وروى عبيد الله بن بطة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قص أظفاره مخالفا لم ير في عينيه رمدا ) وفسر أبو عبد الله بن بطة ذلك بأن يقص الخنصر من اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السباحة ويقص اليسرى الإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السباحة ثم البنصر ، وذكر أن عمر بن رجاء فسره كذلك ، وجاء فيه لون آخر ذكره القاضي أبو يعلى عن وكيع أنه روي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة إذا أنت قلمت أظفارك فابدئي بالوسطى ثم الخنصر ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة ، فإن ذلك يورث الغنى ) هذه الصفة لا تخالف الأولى إلا في الابتداء بالوسطى قبل الخنصر، ومبنى ذلك على الابتداء بالأيمن فالأيمن من كل يد مع المخالفة ، ويستحب غسل رءوس الأنامل بعد قص الأظفار لإزالة ما عليها من الوسخ؛ ولأنه يقال: إن حك الجسد بها قبل الغسل يضره .

[ ص: 241 ] وفي حديث الفطرة: غسل البراجم ، والبراجم العقد التي في ظهور الأصابع والرواجب ما بينها، ومعناه غسل المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ، ويستحب أن يأخذ الظفر في كل أسبوع؛ لما روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان يأخذ أظفاره وشاربه في كل جمعة " وإن تركه أكثر من ذلك فلا بأس ما لم يجاوز أربعين يوما؛ لما روى أنس قال : " وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة " رواه الجماعة إلا البخاري .

ويستحب فيما ذكره القاضي أن يكون يوم الجمعة؛ لما روى ابن بطة بإسناده عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال : " من قص أظفاره يوم الجمعة أدخل في شفاء وأخرج منه داء " وقال يزيد بن مروان في [ ص: 242 ] حديث له: من قلم أظفاره يوم الجمعة لم يمت بالماء الأصفر " وبإسناده عن نافع عن ابن عمر " أنه كان يقلم أظفاره ويقص شاربه كل جمعة " وذكر غيره يوم الخميس؛ لما روي أن عليا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره يوم الخميس ، ثم قال : ( يا علي، قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس، والغسل واللباس والطيب يوم الجمعة ) .

وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يصبح المؤمن يوم الجمعة وهو محرم فإذا صلى حل فإذا مكث في الجامع حتى يصلي العصر مع إمامه كان كمن أتى بحجة وعمرة، فقيل: يا رسول الله متى نتأهب للجمعة؟ قال: يوم الخميس ) رواه الحاكم ، وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد، ويستحب دفن ما أزال من شعره وظفره، نص عليه وحكاه عن ابن عمر .

[ ص: 243 ] لما روت ميل بنت مشرح الأشعري أنها رأت أباها مشرحا " يقلم أظفاره ثم يجمعها ويدفنها ويخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك " رواه البخاري في تاريخه، والخلال وابن بطة ، وروى حرب بإسناده عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ادفنوا شعوركم وأظفاركم ودماءكم لا تلعب بها سحرة بني آدم ) وعن عائشة : " أنها قلمت أظفارها فدفنتها " وعن ابن عمر " أنه حلق رأسه فأمر بدفن شعره " وروى ابن بطة عن رجل من بني هاشم قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن الدم والشعر ) .

وأما الختان فواجب على الرجال في المنصوص المعروف من الذهب؛ لأن الله سبحانه أمرنا باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، والختان من ملته لما [ ص: 244 ] روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم ) متفق عليه ، فإن قيل: ضمن ملته سائر خصال الفطرة وهي غير واجبة لا سيما وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها في نسق واحد، قلنا: إزالة الشعور والأظفار القصد بها إزالة ما يجتمع بسببها من العرق والوسخ والدرن، وإزالة الأوساخ ليست واجبة وكذلك ما قصدت به .

وأما قلفة الذكر فالمقصود بقطعها التطهير من النجاسة التي تحتقن فيها ، ونجاسة البول تجب إزالتها وعامة عذاب القبر منها ، فلذلك وجب إزالة ما يوجب احتقانها واجتماعها ، يؤيد ذلك أن المقطوع هنا من أصل الخلقة، وكذلك يحشر الخلق يوم القيامة غرلا ، فلولا أن إزالتها من الواجبات لما تكلف قطعه بخلاف الشعر والظفر؛ ولأن البول المحتقن في القلفة نجاسة شرع زوالها، فكان واجبا كسائر النجاسات .

وكذلك قال ابن عباس : " الأقلف لا يقبل الله له صلاة ولا تؤكل ذبيحته وتقبل شهادته " وأما المرأة ففيها روايتان ، إحداهما : أن خفضها [ ص: 245 ] واجب كالرجل ، والثانية : لا يجب؛ لأن ترك ختان الرجل مظنة احتقان النجاسة بخلاف المرأة ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الختان سنة للرجل مكرمة للنساء ) رواه أحمد يعني بالسنة الطريقة الشرعية، وإنما يجب إذا غلب على الظن سلامة المختون ، فأما إن خشي عليه لكبر أو مرض فإنه يسقط بل يمنع منه .

وإنما يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة؛ لأنه إنما شرع لذلك، والختان قبل ذلك أفضل، وهو قبل التمييز أفضل من بعده في المشهور؛ لأنه قربة وطهرة فتقديمها أحرز؛ لأن فيه تخليصا من مس العورة ونظرها، فإن عورة الصغير لا حكم لها؛ ولذلك يجوز مسها وتقبيلها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ( يقبل زبيبة الحسن ) وقيل: التأخير إلى سن التمييز أولى؛ لما روى سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال " أنا يومئذ مختون، قال : وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك " يعني والله أعلم حتى يقارب الإدراك مثل تراهق، وفي رواية لأحمد [ ص: 246 ] " توفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين مختون " .

وعن علي أنه كره أن تختتن الجارية قبل سبع سنين ، ولا يكره بعد سبعة أيام، وقبلها فيه روايتان : إحداهما : يكره لأنه فعل اليهود، فكره التشبه بهم ، والأخرى : لا يكره؛ لأنه لم يثبت فيه نهي ، وقد روي عن أبي جعفر أن فاطمة كانت " تختن ولدها يوم السابع " وروي عن مكحول وغيره " أن إبراهيم ختن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام " .

ويؤخذ في ختان الرجل جلدة الحشفة وإن أخذ أكثرها جاز ، وأما المرأة فيستحب ألا يجتذ خافضها ، نص عليه ، وحكي عن ابن عمر أنه قال لختانة : " أبقي منه شيئا إذا خفضت " وعن أم عطية أن رسول الله صلى [ ص: 247 ] الله عليه وسلم ( أمر ختانة تختن فقال: إذا ختنت فلا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل ) رواه أبو داود .

وقالت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لختانة : " إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي فإنه أسرع للزوج وأحظى لها عند زوجها " رواه حرب في مسائله .

التالي السابق


الخدمات العلمية