الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1452 - مسألة : ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ، والتأبير في النخل : هو أن يشقق الطلع ، ويذر فيه دقيق الفحال وأما قبل الإبار فالطلع للمبتاع ، ولا يجوز في ثمرة النخل إلا الاشتراط فقط ، وأما البيع فلا حتى يصير زهوا ، فإذا أزهى جاز فيه الاشتراط مع الأصول ، وجاز فيها البيع مع الأصول ودون الأصول ، وليس هذا الحكم إلا في النخل المأبور وحده كما جاء النص ، ولو ظهرت ثمرة النخل بغير إبار لم يحل اشتراطها أصلا ; لأنه خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وأما سائر الثمار فإن من باع الأصول وفيها ثمرة قد ظهرت أو لم يبد صلاحها ، [ ص: 337 ] فالثمرة - ضرورة ولا بد - للبائع ، لا يحل بيعها إلا مع الأصول ولا دونها ، ولا اشتراطها أصلا .

                                                                                                                                                                                          ولا يجوز لمشتري الأصول أن يلزم البائع قلع الثمرة أصلا ، إلا حتى يبدو صلاحها ، فإذا بدا صلاحها فله أن يلزمه أخذ ما يمكن النفع فيه بوجه ما من الوجوه ، ولا يلزمه أخذ ما لا يمكن الانتفاع به بوجه من الوجوه .

                                                                                                                                                                                          وأما تخصيص النخل بما ذكرنا ، فلأن النص لم يرد إلا فيها فقط ، مع وجود الإبار والقياس باطل - والتعليل بظهور الثمرة باطل ; لأنه دعوى كاذبة بلا دليل .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : لا يجوز في ثمرة النخل إلا الاشتراط فقط ما لم تزه ، فلما ذكرنا قبل من { نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهي وتحمر } ، فلا يجوز بيعها قبل أن تزهي أصلا ، وأباح عليه السلام اشتراطها ، فيجوز ما أجازه عليه السلام ويحرم ما نهى عنه : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .

                                                                                                                                                                                          وقاس الشافعيون ، والمالكيون : سائر الثمار على النخل ، وأجازوا هم ، والحنفيون : بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وقبل أن تزهي على القطع أو مع الأصول - وهذا خلاف نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإباحة ما حرم ، وما عجز عليه السلام قط عن أن يقول إلا على القطع ، أو مع الأصول ، وما قاله عليه السلام قط ، فهو شرع لم يأذن به الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وممن منع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها جملة لا بشرط القطع ولا بغيره : سفيان الثوري ، وابن أبي ليلى - : روينا من طريق مسلم أنا يحيى بن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمشتري } .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق أيوب ، وعبيد الله بن عمر ، وموسى بن عقبة ، ويحيى بن سعيد ، كلهم عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 338 ]

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق إسماعيل بن جعفر ، وشعبة ، كلاهما عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه } .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي الزبير ، وعمرو بن دينار ، كلاهما عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، كلاهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فصار نقل تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الصحابة ، وإلى التابعين ، وفيمن دونهم .

                                                                                                                                                                                          فإن قطع شيء من الثمرة ، فإن كان إن ترك أزهى إن كان بلحا أو بسرا ، أو ظهر فيه الطيب إن كان من سائر الثمار - : لم يحل بيعه حتى يصير في الحال التي أباح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيعه فيها - فإن كان إن ترك لم يزه أبدا ، ولا ظهر فيه الطيب أبدا - : حل بيعه بعد القطع لا قبله ; لأنه حينئذ قد خرج عن الصفة التي أحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جواز بيعه إليها .

                                                                                                                                                                                          وبيقين يدري كل ذي فهم وتمييز أن نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ثمرة النخل حتى تزهي ، وعن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها : إنما هو بلا شك فيما إن ترك أزهى أو ظهر صلاحه لا يمكن غير ذلك ، وأما ما لا يمكن أن يصير إلى الإزهاء أبدا ، ولا أن يبدو صلاحه أبدا ، فليس هو الذي نهى عليه السلام عن بيعه حتى يزهي أو حتى يبدو صلاحه ، فإذ ليس هو المنهي عن بيعه فقد قال الله تعالى : { وأحل الله البيع } .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : لا يجوز لمشتري الأصول أن يأخذ البائع بقلع ثمرته قبل أن يمكنه الانتفاع بها ، فالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق المغيرة بن شعبة أنه عليه السلام : { نهى عن إضاعة المال } والبائع لم يتعد في كون ثمرته في أصولها فيكون هو المضيع لماله .

                                                                                                                                                                                          وكذلك القول فيمن باع أرضا وفيها بذر له ونوى ولم يبع البذر ولا النوى ، فليس لمشتري الأرض أخذه بقلع ذلك إلا حتى يصير النبات في أول حدود الانتفاع به في وجه [ ص: 339 ] ما ، فليس له حينئذ أن يغل أرض غيره ، ولا شجر غيره ، بمتاعه بغير إذن صاحب الأصل ، وبالله تعالى التوفيق . 1453 - .

                                                                                                                                                                                          مسألة : وأما بعد ظهور الطيب في ثمرة النخل فإنه يجوز فيها الاشتراط إن بيعت الأصول ، ويجوز فيها البيع مع الأصول ودونها - أما الاشتراط فلوقوع الصفة عليها وهي قوله عليه السلام : { قد أبرت } فهذه ثمرة قد أبرت - وأما جواز بيعها مع الأصول ودونها لإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعها إذا أزهت - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية