الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : ) وإذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب ، ولم يكونا من أهل الكتاب أو كانا والمرأة هي التي أسلمت فإنه يتوقف انقطاع النكاح بينهما على انقضاء ثلاث حيض عندنا سواء دخل بها أو لم يدخل بها ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إن كان قبل الدخول تقع الفرقة بإسلام أحدهما ، وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء العدة ، وعنده لا يختلف هذا الحكم بدار الحرب ودار الإسلام ، ولكنه ينبني على تأكد النكاح بالدخول وعدم تأكده كما ذكرنا ، فأما عندنا : نفس إسلام أحدهما غير موجب للفرقة ، ولا كفر من أصر منهما على الكفر ، ولا اختلاف الدين نفسه كما بينا في دار الإسلام ، إلا أن في دار الإسلام يمكن تقرير سبب الفرقة بعرض الإسلام على الآخر منهما حتى إذا أبى يصير مفوتا الإمساك بالمعروف ، وفي دار الحرب لا يتأتى ذلك ; لأن يد إمام المسلمين لا تصل إلى المصر منهما ; ليعرض عليه الإسلام ; ويحكم بالفرقة عند إبائه فيقام ثلاث حيضات مقام ثلاث عرضات في تقرر سبب الفرقة ; لأنه صار غير مريد لها حين لم يساعدها على الإسلام ، وبعدما صار غير مريد لها تقع بانقضاء ثلاث حيض .

كما لو طلقها إلا أنه هناك إذا كان الطلاق قبل الدخول يمكن إثبات الفرقة بنفسه ; لمباشرة الزوج سبب الفرقة [ ص: 57 ] وهنا لا يمكن إثبات الفرقة قبل الدخول بدون انقضاء ثلاث حيض ; لأن الزوج ما باشر شيئا بل هو مستديم لما كان عليه فلهذا يتوقف انقطاع النكاح على انقضاء ثلاث حيض في الوجهين جميعا ، وإذا وقعت الفرقة بذلك فإن كان قبل الدخول فلا عدة عليها ، وإن كان بعد الدخول ، والمرأة حربية فكذلك الجواب ; لأن حكم الشرع لا يثبت في حقها فإن كانت المرأة هي المسلمة فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ; لأنه لا يوجب العدة على المسلمة من الحربي ، وأصل المسألة في المهاجرة فإنها إذا خرجت إلى دار الإسلام مسلمة أو ذمية لم تلزمها العدة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا أن تكون حاملا فحينئذ لا تتزوج حتى تضع حملها .

وإن كانت حاملا فلها أن تتزوج في الحال وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تلزمها العدة ، وحجتهما في ذلك حديث نسيبة { أنها لما هاجرت أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد } ، والمعنى فيه : أنه هذه حرة فارقت زوجها بعد الإصابة فتلزمها العدة كالمطلقة في دارنا ; وهذا لأن وجوب العدة عليها لحق الشرع كي لا يجتمع ماء رجلين في رحمها ، وهي مسلمة مخاطبة بحق الشرع ، وهذا بخلاف المسبية فإنها ليست بحرة ، وتأثيره أنها حلت للسابي ، ومن ضرورة الحكم بحلها للسابي الحكم بفراغ رحمها من ماء الزوج بخلاف ما نحن فيه ، ولا يقال : لماذا يجب الاستبراء على السابي ؟ لأنا نقول : كما يجب الاستبراء على السابي إذا كانت ثيبا أو منكوحة فكذلك إذا كانت بكرا أو لم تكن منكوحة ، فكذا هذا مع أن هذا دليلنا ; لأن بالاستبراء هناك يحصل المقصود فلا حاجة إلى إيجاب العدة عليها بخلاف المهاجرة .

وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } فالله تعالى أباح نكاح المهاجرة مطلقا ، فتقييد ذلك بما بعد انقضاء العدة يكون زيادة ، وقال الله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ، وفي إيجاب العدة تمسك بعصمة الكافرة ، والمعنى فيه : أن هذه الفرقة وقعت بتباين الدارين فلا توجب العدة عليها وكالمسبية ; هذا لأن تباين الدارين حقيقة وحكما مناف للنكاح ، فيكون منافيا لأثر النكاح فلا تجب العدة لحق الشرع مع وجود المنافي ، ولا لحق الزوج ; لأنه حربي غير محترم ، وهو نظير من اشترى امرأته لا تجب العدة لحقه ; لأن الحل الثابت بالملك حقه ، ولا تجب لحق الشرع ; لوجود المنافي فأما إذا كانت حاملا فلا نقول : تجب العدة عليها ، ولكنها لا تتزوج ما لم تضع حملها ; لأن في بطنها ولدا ثابت النسب من الغير ، وذلك مانع من النكاح كأم الولد إذا حبلت من مولاها ليس له أن يزوجها [ ص: 58 ] حتى تضع .

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها إذا تزوجت صح النكاح ، ولكن لا يقربها زوجها حتى تضع ; لأنه لا حرمة لماء الحربي كماء الزاني فهو بمنزلة ماء الزاني ، والحبل من الزنا لا يمنع النكاح عندنا ، ولكن الأول أصح ; لأن الحبل من الزنا لا نسب له ، وهنا النسب ثابت من الحربي ، وباعتبار ثبوت النسب المحل مشغول فلهذا لا يصح النكاح ما لم يفرغ المحل عن حق الغير ، ويستوي في وقوع الفرقة بتباين الدارين إن خرج أحدهما مسلما أو ذميا أو خرج مستأمنا ثم أسلم أو صار ذميا ; لأنه صار من أهل دارنا حقيقة وحكما في الفصلين ، وإن كان الخارج هو الزوج فله أن يتزوج أربعا سواها أو أختها إن كانت في دار الإسلام ; لأنه لا عدة على التي بقيت في دار الحرب عندهم جميعا فكان هذا بمنزلة الفرقة قبل الدخول ، وإذا أسلمت المرأة ثم خرج الزوج مستأمنا فهما على النكاح ما لم تحض ثلاث حيض ; لأن المستأمن ، وإن كان في دارنا صورة من أهل دار الحرب حكما فكأنه باق في دار الحرب حتى إذا أسلم الزوج قبل أن تحيض فهما على النكاح ، وإن صار الزوج من أهل الذمة قبل أن تحيض ثلاث حيض فهما على النكاح أيضا ، حتى إذا خرجت المرأة فهي امرأته حتى يعرض السلطان عليه الإسلام بمنزلة ما لو كان الزوج في الأصل ذميا ، وكذلك لو كان الزوج هو الذي أسلم في دار الحرب ثم خرجت إلينا ذمية قبل أن تحيض ثلاث حيض فهما على النكاح حتى يعرض السلطان عليها الإسلام .

فأما إذا خرجا مستأمنين ثم أسلمت المرأة ففي رواية هذا الكتاب يتوقف انقطاع النكاح بينهما على انقضاء ثلاث حيض ; لأن الزوج من أهل دار الحرب ، فهو بمنزلة ما لو كان في دار الحرب ، وفي رواية كتاب الطلاق يقول : إن عرض السلطان الإسلام على الزوج فأبى أن يسلم فرق بينهما ، وإن لم يعرض حتى مضى ثلاث حيض تقع الفرقة أيضا ففي حق الذمي يتعين عرض الإسلام ، وفي حق الحربي في دار الحرب يتعين انقضاء ثلاث حيض ، وفي حق المستأمن أي الأمرين يوجد تقع به الفرقة ; لأن المستأمن من وجه يشبه الذمي ; لأنه تحت يد الإمام يتمكن من عرض الإسلام عليه ، ومن وجه يشبه الحربي ; لأنه متمكن من الرجوع إلى دار الحرب فيوفر حظه على الشبهين ; فلشبهه بالذمي إذا وجد عرض الإسلام عليه تقع به الفرقة ; ولشبهه بالحربي إذا وجد انقضاء ثلاث حيض أولا تقع به الفرقة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب

التالي السابق


الخدمات العلمية