الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : ) وإن كان الزوج أجر الصداق فالأجر له ; لأن الصداق في يده مضمون بنفسه كالمغصوب ، والغاصب إذا أجر المغصوب فالأجر له ، ولكن يتصدق به ; لأنه حصل له بكسب خبيث ، فكذلك الزوج ، وهذا عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى [ ص: 71 ] الأجر لها بناء على أصله أن المنافع عنده مال ، والأجر بدل ما هو مال لها ، فيكون بمنزلة العقر وأرش الطرف ، وعندنا المنافع ليست بمال متقوم ، وإنما تتقوم بالعقد ، والعاقد هو الزوج فكان الأجر له ; لأنه بعقده صير ما ليس بمتقوم من ملك الغير متقوما ، فهو كمن صنع كوزا من تراب غيره وباعه يكون الثمن له .

( قال : ) فإن ولدت أو اكتسبت مالا قبل التسليم فذلك كله للمرأة معها .

والحاصل أن الزيادة في الصداق قبل القبض نوعان : متصلة ومنفصلة .

فالمتصلة : كالسمن في الجارية وانجلاء البياض عن العين .

والزيادة المنفصلة : إما متولدة من العين كالولد ، والثمار ، والعقر ، وإما غير متولدة من العين كالكسب والغلة ، وذلك كله يسلم للمرأة إذا دخل بها الزوج أو مات عنها ; لأنه يملك بملك الأصل ، وملك الأصل كان سالما لها ، وقد تقرر ذلك بالموت والدخول ، فكذلك الزيادة ، وأما إذا طلقها قبل الدخول بها فالزيادة المتولدة منفصلة كانت أو متصلة تتنصف بالطلاق مع الأصل ; لأنها في حكم جزء من العين ، والحادث من الزيادة بعد العقد قبل القبض كالموجود وقت العقد بدليل المبيعة ، فإن الزيادة المتولدة هناك كالموجود وقت العقد حتى يصير بمقابلتها شيء من الثمن عند القبض .

فأما الكسب والغلة لا تتنصف بالطلاق قبل الدخول بل يسلم الكل لها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وأما في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تتنصف مع الأصل ، وكذلك لو جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول حتى يبطل ملكها عن جميع الصداق يسلم لها الكسب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وعندهما يدور الكسب مع الأصل ، وكذلك المبيع قبل القبض إذا اكتسب كسبا ثم انفسخ البيع بهلاك المبيع قبل القبض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يسلم الكسب للمشتري ، وعندهما هو للبائع ، وحجتهما في ذلك أن الكسب زيادة منفصلة عن الأصل فيكون قياس الولد فكما لا يسلم ذلك لها بعد ما بطل ملكها عن الأصل ، فكذلك هذا ; وهذا لأن بطلان ملكها عن الأصل بحكم انفساخ السبب فيه ، والزيادة إنما تملك بملك الأصل متولدة كانت أو غير متولدة ، فبعد ما انفسخ سبب الملك لها في الأصل لا يبقى سببا لملك الزيادة لها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : السبب الذي به ملكت الكسب لم ينفسخ فيبقى ملك الكسب لها كما قبل الطلاق ، وبيان ذلك أن سبب ملك الكسب إما قبول العبد الهبة أو إجارته نفسه ، واكتسابه من حيث الاحتطاب ، والاحتشاش وشيء من هذه الأسباب لا ينفسخ بالطلاق ، وتأثيره أن الاكتساب يوجب الملك للمكتسب ، ولكن إذا لم يكن [ ص: 72 ] المكتسب من أهل الملك فمن يخلفه ، وهو مولاه يقوم مقامه في الملك بذلك السبب ; لوصلة الملك بينهما وقت الاكتساب ، ثم ببطلان ملكه في الأصل بعد ذلك لا يتبين أنه لم يخلفه في الملك بذلك السبب ، وليس الكسب بمنزلة الزيادة المتولدة ; لأن المتولد جزء من الأصل يسري إليه ملك الأصل إلا أن يكون مملوكا بسبب حادث ، ألا ترى أن ولد المكاتبة يكون مكاتبا ، وكسبها لا يكون مكاتبا ، وولد المبيعة قبل القبض يكون مبيعا يقابله حصة من الثمن عند القبض ، وكسب المبيع لا يكون مبيعا فلا يقابله شيء من الثمن ، وإن قبض مع الأصل فظهر الفرق بينهما ، وكذلك لو قبضت المرأة الأصل مع الزيادة المتولدة ثم طلقها قبل أن يدخل بها يتنصف الأصل والزيادة .

لأن حكم التنصف عند الطلاق ثبت في الكل حين كانت الزيادة حادثة قبل القبض فلا يسقط ذلك بقبضها ، ولو كانت قبضت الأصل قبل حدوث الزيادة ثم حدثت الزيادة في يدها ثم طلقها قبل الدخول فإن كانت الزيادة غير متولدة كالكسب والغلة ، فهو سالم لها وردت نصف الأصل على الزوج ; لأن حدوث الكسب كان بعد تمام ملكها ويدها فيكون سالما لها ، وإن لزمها رد الأصل أو بعضه كالمبيع إذا اكتسب في يد المشتري ثم رد الأصل بالعيب يبقى الكسب سالما له ; وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم { الخراج بالضمان } ، وقد كان الصداق في ضمانها فمنفعته تسلم لها ، والكسب بدل المنفعة فأما إذا كانت الزيادة متولدة من العين فإن كانت منفصلة كالولد والثمار ; يمنع تنصف الأصل بالطلاق وعود الكل إليه إذا جاءت الفرقة من قبلها ، ولكن للزوج عليها نصف قيمة الأصل أو جميع قيمته يوم دفع إليها ، وعلى قول زفر رحمه الله تعالى : يتنصف الأصل مع الزيادة بالطلاق ، ويعود الكل إلى الزوج إذا جاءت الفرقة من قبلها ; لأن بقبضها لا يتأكد ملكها ما لم يدخل بها ، بل توهم عود النصف إلى الزوج بالطلاق أو الكل إذا جاءت الفرقة من قبلها ثابت فيسري ذلك الحق إلى الزيادة بمنزلة المشتراة شراء فاسدا إذا قبضها المشتري ، وازدادت زيادة منفصلة فإن البائع يستردها بزيادتها وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى قال : في الطلاق يرجع الزوج عليها بنصف قيمة الأصل ، وعند ردتها يسترد منها الأصل مع الزيادة ; لأن الردة تفسخ السبب مع الأصل فيكون الرد بحكم انفساخ السبب بمنزلة الرد بسبب فساد البيع ، وهنا كحكم الرد يثبت في الأصل والزيادة ، فأما الطلاق حل العقد ، وليس بفسخ له من الأصل فلا يثبت حق الزوج في الزيادة التي لم تكن في ملكه ، ولا في يده .

ويتعذر [ ص: 73 ] تنصف الزيادة بتعذر تنصف الأصل ، ووجه ظاهر الرواية أنها ملكت الصداق بالعقد ، وتم ملكها بالقبض فالزيادة حدثت على ملك تام لها ، وحكم التنصف عند الطلاق إنما يثبت في المفروض في العقد ، والزيادة ما كانت مسماة في العقد لا حقيقة ، ولا حكما إذا لم يرد عليها القبض المستحق بالعقد فتعذر تنصفها ، وهي جزء من العين فيتعذر تنصفها بتعذر تنصف العين كالزيادة المنفصلة في المبيع تمنع رد الأصل بالعيب إذا كان حادثا بعد القبض ، وهذا بخلاف الزيادة المنفصلة في الموهوب فإنه لا يمنع الواهب من الرجوع في الأصل ; لأن الهبة عقد تبرع ، فإذا رجع في الأصل بقيت الزيادة للموهوب له بغير عوض ، وقد كان الأصل سالما بغير عوض فيجوز أن تسلم الزيادة له أيضا بغير عوض ، فأما البيع ، والنكاح معاوضة فبعد تعذر رد الزيادة لو أثبتنا حكم الرد في الأصل بقيت الزيادة سالمة بغير عوض ، وهو جزء من الأصل فلا يجوز أن يسلم الملك بغير عوض بعد رفع عقد المعاوضة بينهما فإذا تعذر تنصيف الأصل وجب عليها نصف القيمة للزوج ; لتعذر رد العين بعد تقرر السبب الموجب له ، وإنما دخل الصداق في ضمانها بالقبض فلهذا كان المعتبر القيمة وقت القبض ، فأما إذا كانت الزيادة متصلة كالسمن ، والجمال وانجلاء البياض فطلقها قبل أن يدخل بها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى هذا ، والزيادة المنفصلة سواء ، وللزوج عليها نصف قيمة الصداق يوم قبضت ، وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يتنصف الأصل بزيادته ، وحجتهما في ذلك أن النكاح عقد معاوضة ، والزيادة المتصلة لا عبرة بها في عقود المعاوضات كما في البيع لو اشترى جارية بعبد ، وقبض الجارية فازدادت زيادة متصلة ثم هلك العبد قبل التسليم أو رده المشتري بعيب يسترد الجارية بزيادتها بخلاف ما لو كانت الزيادة منفصلة .

وهذا لأن الزيادة المتصلة بمنزلة الشعر ، ألا ترى أنها لو حدثت قبل القبض لا ينقسم الثمن باعتبارها كزيادة الشعر فكذلك في الصداق ، وهذا بخلاف الموهوبة فإن الزيادة المتصلة فيها تمنع الرجوع ; لأن الهبة ليست بعقد ضمان فالقبض بحكمه لما لم يوجب ضمان العين على الموهوب له لم يبق للواهب حق في العين حتى تسري إلى الزيادة ، وإذا تعذر الرجوع في الزيادة تعذر في الأصل ; لأن الأصل لا ينفصل عن الزيادة فأما قبضها الصداق قبض ضمان وثبوت الضمان لحق الزوج فيه يتبين بقاء حق الزوج في الأصل فيسري إلى الزيادة كما في البيع وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا : هذه الزيادة حدثت من ملك صحيح تام لها [ ص: 74 ] فيكون سالما لها بكل حال كالزيادة المنفصلة .

وإذا تعذر تنصف الزيادة تعذر تنصف الأصل لما قال محمد رحمه الله تعالى : والدليل عليه أن الصداق في حكم الصلة من وجه ; لأنها تملكه لا عوضا عن مال يستحق عليها ، والزيادة المتصلة في الصلات تمنع رد الأصل كالموهوب ، وتأثير الزيادة المتصلة في الصلات أكثر من تأثير الزيادة المنفصلة حتى أن الزيادة المنفصلة في الهبة لا تمنع الرجوع ، والمتصلة تمنع ثم الزيادة المنفصلة هنا تمنع تنصف الأصل فالمتصلة أولى ، فأما البيع فالصحيح أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الزيادة المتصلة هناك تمنع فسخ العقد من الأصل كالمنفصلة ، وما ذكر في المأذون فهو قول محمد رحمه الله تعالى خاصة ، وقد نص في كتاب البيوع على أن الزيادة المتصلة تمنع الفسخ بالتحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى كالزيادة المنفصلة ، ولو كان حدوث الزيادة في يدها بعدما طلقها الزوج قبل الدخول يتنصف الأصل مع الزيادة ; لأن بالطلاق صار رد نصف الأصل مستحقا عليها فيسري ذلك إلى الزيادة كالمشترى شراء فاسدا يرد بزيادته المتصلة والمنفصلة ، بخلاف ما قبل الطلاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية