الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( وإذا أحدث الرجل في ركوعه أو سجوده فذهب وتوضأ وجاء لم يجزئه الاعتداد بالركوع والسجود الذي أحدث فيه ) ; لأن الحدث قد نقضه ، ومعنى [ ص: 188 ] هذا أن القياس أن يفسد جميع الصلاة بالحدث تركناه بالنص المجوز للبناء على الصلاة ، فبقي معمولا به في حق الركن الذي أحدث فيه ; لأن انتقاض ذلك الركن لا يمنع من البناء ، ولأن تمام الركن بالانتقال عنه ، ولا يمكن أن يجعل رفع رأسه بعد الحدث إتماما لذلك الركن ; لأنه جزء من صلاته ، وأداء جزء من صلاته بعد سبق الحدث مفسد لصلاته ، وإذا جاء بعد الوضوء فعليه إتمام ذلك الركن ، ولا يمكنه إتمامه إلا بإعادته فعليه الإعادة لهذا

قال : ( فإن كان إماما فأحدث وهو راكع فتأخر وقدم رجلا مكث الرجل راكعا كما هو حتى يكون قدر ركوعه ) ; لأن الاستدامة فيما يستدام كالإنشاء ، والثاني قائم مقام الأول ، وعلى الأول إنشاء الركوع فعلى الثاني استدامته أيضا ، فإن لم يحدث ولكن تذكر في الركوع في الركعة الثانية أنه ترك سجدة من الركعة الأولى فخر ساجدا ثم رفع رأسه ، فإن احتسب بذلك الركوع جاز ، وإن أعاده فهو أحب إلي ; لأن تذكره السجود غير ناقض لركوعه ، ولأن رفع رأسه يمكن أن يجعل إتماما للركوع بعد تذكره السجدة ، ألا ترى أنه لو أخرها إلى آخر صلاته جاز ، فلهذا كان له أن يعتد به ، والإعادة أفضل ; لأنه ما قصد إتمام الركن بالانتقال عنه إنما قصد إذا تذكر ، وقال زفر - رحمه الله - عليه أن يعيد القيام والقراءة والركوع ; لأن من أصله أن مراعاة الترتيب في أفعال الصلاة ركن واجب فالتحقت هذه السجدة بمحلها وبطل ما أدى من القيام والقراءة والركوع لترك الترتيب ، فأما عندنا مراعاة الترتيب ليست بركن ألا ترى أن المسبوق يبدأ بما أدرك مع الإمام فيه ، ولو كان الترتيب ركنا لما جاز له تركها بعذر الجماعة كالترتيب بين الصلوات ، ولئن كان الترتيب واجبا فقد سقط بعذر النسيان . وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن عليه إعادة الركوع لا محالة ، وهو بناء على أصله أن القومة التي بين الركوع والسجود ركن حتى لو تركها لا تجوز صلاته ، وأصل المسألة أن الاعتدال في أركان الصلاة سنة مؤكدة أو واجب عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وعند أبي يوسف والشافعي - رحمهما الله تعالى - هو ركن ، حتى إنه إن لم يتم ركوعه وسجوده في الصلاة ولم يقم صلبه تجوز صلاته عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - ويكره أشد الكراهة ، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال : أخشى أن لا تجوز صلاته ، وعند أبي يوسف والشافعي - رحمهما الله تعالى - لا تجوز صلاته أصلا لحديث { الأعرابي ، فإنه دخل المسجد وخفف فقال له عليه الصلاة والسلام : ارجع فصل ، فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاثا ، ثم حين [ ص: 189 ] علمه قال : له اركع حتى يطمئن كل عضو منك ، ثم ارفع رأسك حتى يطمئن كل عضو منك } الحديث ورأى حذيفة بن اليمان رجلا يصلي ولا يتم الركوع والسجود ، فقال : مذ كم تصلي هكذا ، فقال : مذ كذا ، فقال : إنك لم تصل منذ كذا ، ومثل هذا لا يعلم بالرأي ، وإنما يقال سماعا .

( ولنا ) ما روي { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في المسجد مع أصحابه فدخل رجل وصلى وخفف فلما خرج أساءوا القول فيه فقالوا : أخرها ثم لم يحسن أداءها ، فقال عليه الصلاة والسلام : ألا أحد يشتري صلاته منه ، فخرج أبو هريرة رضي الله عنه فاشتراها بدرهم فأبى فما زال يزيد حتى ضجر الرجل ، فقال : لو أعطيتني ملء الأرض ذهبا ما بعتكها ، فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فقال : ألم أنهكم عن المصلين } فقد جعل فعله صلاة معتبرة ، وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن صلاة الأعراب الذين ينقرون نقرا ، فقال : ذلك خير من لا شيء ، ولأن الركنية لا تثبت إلا باليقين ، وإنما ورد النص بالركوع والسجود ، ومطلق الاسم يتناول الأدنى فبقيت الركنية بذلك القدر ، والزيادة على ذلك للإكمال ، ولكن ترك ما هو لإكمال الفريضة مما ليس بركن لا يفسده ، وقد نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي فيما علمه ، فإنه قال : { إذا فعلت ذلك فقد أتممت صلاتك ، وإن نقصت من ذلك فقد نقصت صلاتك } . إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي يوسف رحمه الله تعالى القومة التي بين الركوع والسجود ركن ، فإنه إذا تذكر السجدة في الركوع إما السجدة الصلاتية أو التلاوية فخر لها ساجدا ولم يأت بتلك القومة فعليه إعادة الركوع ليأتي بتلك القومة . وعندنا تلك القومة ليست بركن فتركها لا يفسد الصلاة والأولى الإعادة ليأتي بها . ثم قدر الركن من الركوع أدنى الانحطاط على وجه يسمى راكعا في الناس ، وفي السجود إمساس جبهته أو أنفه على الأرض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، والمفروض من الرفع بين السجدتين قدر ما يزايل جبهته وأنفه الأرض ليتحقق به الفصل بين السجدتين . وقال بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - : لا يجوز إلا أن يرفع بقدر ما يكون إلى القعود أقرب منه إلى السجود ، والأول أقيس .

التالي السابق


الخدمات العلمية