الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما يجوز للمعتكف أن يفعله قال الله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد يحتمل اللفظ حقيقة المباشرة التي هي إلصاق البشرة بالبشرة من أي موضع كان من البدن ويحتمل أن تكون كناية عن الجماع كما كان المسيس كناية عن الجماع ، وحقيقته المس باليد وبسائر الأعضاء وكما قال : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم والمراد الجماع ، فلما اتفق الجميع أن هذه الآية قد حظرت الجماع على المعتكف وأنه مراد بها ، وجب أن تنتفي إرادة المباشرة التي هي حقيقة لامتناع كون لفظ واحد حقيقة مجازا .

وقد اختلف الفقهاء في مباشرة [ ص: 307 ] المعتكف ، فقال أصحابنا : " لا بأس بها إذا لم تكن بشهوة وأمن على نفسه ، ولا ينبغي أن يباشرها بشهوة ليلا ولا نهارا ، فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه ، فإن لم ينزل لم يفسد وقد أساء " وقال ابن القاسم عن مالك : " إذا قبل امرأته فسد اعتكافه " وقال المزني عن الشافعي : " إن باشر فسد اعتكافه " وقال في موضع آخر : " لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد " قال أبو بكر : قد بينا أن مراد الآية في المباشرة هو الوطء دون المباشرة باليد والقبلة ، وكذلك قال أبو يوسف ، إن قوله : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد إنما هو على الجماع .

وروي عن الحسن البصري قال : " المباشرة النكاح " ، وقال ابن عباس : " إذا جامع المعتكف فسد اعتكافه " .

وقال الضحاك : " كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزل : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وقال قتادة : " كان الناس إذا اعتكفوا خرج الرجل منهم فباشر أهله ثم رجع إلى المسجد ، فنهاهم الله عن ذلك بقوله : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وهذا من قولهم يدل على أنهم عقلوا من مراد الآية الجماع دون اللمس والمباشرة باليد .

ويدل على أن المباشرة لغير شهوة مباحة للمعتكف ، حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف فكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، فدل على أن المباشرة لغير شهوة غير محظورة على المعتكف وأيضا لما ثبت أن الاعتكاف بمعنى الصوم في باب حظر الجماع ولم يكن الصوم مانعا من المباشرة أو القبلة لغير شهوة إذا أمن على نفسه .

وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في آثار مستفيضة ، وجب أن لا يمنع الاعتكاف القبلة لغير شهوة ولما كانت المباشرة والقبلة لشهوة محظورتين في الصوم وجب أن يكون ذلك حكمهما في الاعتكاف ، ولما كانت المباشرة في الصوم إذا حدث عنها إنزال فسد الصوم وجب أن يفسد الاعتكاف ؛ لأن الاعتكاف والصوم قد جريا مجرى واحدا في اختصاصهما بحظر الجماع دون دواعيه من الطيب ودون اللباس .

فإن قيل : المحرم إذا قبل بشهوة لزمه دم وإن لم ينزل ، فهلا أفسدت الاعتكاف بمثله قيل له : ليس الإحرام بأصل للاعتكاف ، ألا ترى أنه ممنوع في الإحرام من الجماع ودواعيه من الطيب ومحظور عليه اللبس والصيد وإزالة التفث عن نفسه وليس يحظر ذلك عليه الاعتكاف ؟ فثبت بذلك أن الإحرام ليس بأصل للاعتكاف ، وأن الإحرام أكبر حرمة فيما يتعلق به من الأحكام ، فلما كان المحرم ممنوعا من الاستمتاع [ ص: 308 ] وقد حصل له ذلك بالمباشرة وإن لم ينزل ، وجب عليه دم لحصول الاستمتاع بما هو محظور عليه ، فأشبه الاستمتاع بالطيب واللباس ، فلزمه من أجل ذلك دم

فإن قيل : فلا يفسد اعتكافه وإن حدث عنها إنزال كما لا يفسد إحرامه ، قيل له : لم نجعل ما وصفنا علة في فساد الاعتكاف حتى يلزمنا علتها ، وإنما أفسدنا اعتكافه بالإنزال عن المباشرة كما أفسدنا صومه ، وأما الإحرام فهو مخصوص في إفساده بالجماع في الفرج وسائر الأمور المحظورة في الإحرام لا يفسده ، ألا ترى أن اللبس والطيب والصيد كل ذلك محظور في الإحرام ولا يفسده إذا وقع فيه ؟ فالإحرام في باب البقاء مع وجود ما يحظره أكبر من الاعتكاف والصوم ؛ ألا ترى أن بعض الأشياء التي يحظرها الصوم يفسده مثل الأكل والشرب وكذلك يفسد الاعتكاف ؟

فلذلك قلنا إن المباشرة في الاعتكاف إذا حدث عنها إنزال أفسدته كما تفسد الصوم ، ومتى لم يحدث عنها لم يكن لها تأثير في إفساد الاعتكاف كما لم تؤثر في إفساد الصوم .

واختلف فقهاء الأمصار في أشياء من أمر المعتكف ، فقال أصحابنا : " لا يخرج المعتكف من المسجد في اعتكاف واجب ليلا ولا نهارا إلا لما لا بد منه من الغائط والبول وحضور الجمعة ، ولا يخرج لعيادة مريض ولا لشهود جنازة " قالوا : " ولا بأس بأن يبيع ويشتري ويتحدث في المسجد ويتشاغل بما لا مأثم فيه ويتزوج وليس فيه صمت " وبه قال الشافعي .

وقال ابن وهب عن مالك : " لا يعرض المعتكف لتجارة ولا غيرها بل يشتغل باعتكافه ، ولا بأس أن يأمر بصنعته ومصلحة أهله وبيع ماله أو شيئا لا يشغله في نفسه .

ولا بأس به إذا كان خفيفا " ؛ قال مالك : " ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف ، ولا بأس بنكاح المعتكف ما لم يكن الوقاع " وقال ابن القاسم عن مالك : " لا يقوم المعتكف إلى رجل يعزيه بمصيبة ، ولا يشهد نكاحا يعقد في المسجد يقوم إليه في المسجد ، ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر به بأسا ، ولا يقوم إلى الناكح فيهنئه ، ولا يتشاغل في مجلس العلم ولا يكتب العلم في المجلس وكرهه ويشتري ويبيع إذا كان خفيفا " .

وقال سفيان الثوري : " المعتكف يعود المريض ويشهد الجمعة وما لا يحسن به أن يصنعه في المسجد أتى أهله فصنعه ، ولا يدخل سقفا إلا أن يكون ممره فيه ، ولا يجلس عند أهله ، وليوصهم بحاجته وهو قائم أو يمشي ، ولا يبيع ولا يبتاع ، وإن دخل سقفا بطل اعتكافه " ، وقال الحسن بن صالح : " وإذا دخل المعتكف بيتا ليس فيه طريقه أو جامع بطل [ ص: 309 ] اعتكافه ، ويحضر الجنازة ويعود المريض ويأتي الجمعة ويخرج للوضوء ويدخل بيت المريض ، ويكره أن يبيع ويشتري " قال أبو بكر : روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن عائشة قالت إن من السنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ، ولا يتبع الجنازة ، ولا يعود مريضا ، ولا يمس امرأة ولا يباشرها وعن سعيد بن المسيب ومجاهد قالا : " لا يعود المعتكف مريضا ولا يجيب دعوة ولا يشهد جنازة " وروى مجاهد عن ابن عباس قال : " ليس على المعتكف أن يعود مريضا ولا يتبع جنازة " فهؤلاء السلف من الصحابة والتابعين قد روي عنهم في المعتكف ما وصفنا ، وروي عن غيرهم خلاف ذلك .

وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال : " المعتكف يشهد الجمعة ويعود المريض ويتبع الجنازة " وروي مثله عن الحسن وعامر وسعيد بن جبير ، وروى سفيان بن عيينة عن عمار بن عبد الله بن يسار عن أبيه عن علي " أنه لم ير بأسا أن يخرج المعتكف ويبتاع " .

وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان فهذا الحديث يقتضي حظر الخروج إلا لحاجة الإنسان ، مما وصفنا من أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للاعتكاف وارد مورد البيان ، وفعله إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب ، فأوجب ما ذكرنا من فعله حظر الخروج على المعتكف إلا لحاجة الإنسان .

وإنما يعنى به البول والغائط ، ولما كان من شرط الاعتكاف اللبث في المسجد ، وبذلك قرنه الله تعالى عند ذكره في قوله : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وجب أن لا يخرج إلا لما لا بد منه من حاجة الإنسان وقضاء فرض الجمعة ؛ ولأنه معلوم أنه لم يعقد على نفسه اعتكافا هو متنفل بإيجابه ، وهو يريد ترك شهود الجمعة وهي فرض عليه ، فصار حضورها مستثنى من اعتكافه .

فإن قيل : أليس في قوله : وأنتم عاكفون في المساجد دلالة على أن من شرطه دوام اللبث فيه ؟ لأنه إنما ذكر في الحال التي يكونون عليه وعلق به حظر الجماع إذا كانوا بهذه الصفة ، ولا دلالة على حظر الخروج من المسجد في حال الاعتكاف ، قيل له : هذا خطأ من وجهين :

أحدهما : أنه معلوم أن حظر الجماع على المعتكف غير متعلق بكونه في المسجد ؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس له أن يجامع امرأته في بيته في [ ص: 310 ] حال الاعتكاف .

وقد حكينا عن بعض السلف أن الآية نزلت فيمن كان يخرج من المسجد في حال اعتكافه إلى بيته ويجامع ، فلما كان ذلك كذلك ثبت أن ذكر المسجد في هذا الموضع إذا لم يعلق به حظر الجماع إنما هو لأن ذلك شرط الاعتكاف ومن أوصافه التي لا يصح إلا به ، والوجه الآخر : أن الاعتكاف لما كان أصله في اللغة اللبث في الموضع ، ثم ذكر الله تعالى الاعتكاف ، فاللبث لا محالة مراد به وإن أضيف إليه معان أخر لم يكن الاسم لها في اللغة ، كما أن الصوم لما كان في اللغة هو الإمساك ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يخرجه ذلك من أن يكون من شرطه وأوصافه التي لا يصح إلا به .

فثبت أن الاعتكاف هو اللبث في المسجد ، فواجب على هذا أن لا يخرج إلا لما لا بد منه أو لشهود الجمعة ؛ إذ كانت فرضا ، مع ما عاضد هذه المقالة ما قدمنا من السنة ، ولما لم يتعين فرض شهود الجنازة وعيادة المريض لم يجز له الخروج لهما .

وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فما يعرج عليه ، يسأل عنه ويمضي وروى الزهري عن عمرة عن عائشة مثله من فعلها ، ولما اتفق الجميع ممن ذكرنا قوله أنه غير جائز للمعتكف أن يخرج فينصرف في سائر أعمال البر من قضاء حوائج الناس والسعي على عياله وهو من البر ، وجب أن يكون كذلك حكم عيادة المريض ، وكما لا يجيبه إلى دعوته كذلك عيادته لأنهما سواء في حقوق بعضهم على بعض ؛ فالكتاب والأثر والنظر يدل على صحة ما وصفنا ، فإن احتج محتج بما روى الهياج الخراساني قال : حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الخالق عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المعتكف يتبع الجنازة ويعود المريض ، وإذا خرج من المسجد قنع رأسه حتى يعود إليه قيل له : هذا حديث مجهول السند ، لا يعارض به حديث الزهري عن عمرة عن عائشة .

وأما قول من قال : " إنه إن دخل سقفا بطل اعتكافه " فتخصيصه السقف دون غيره لا دلالة عليه ، ولا فرق بين السقف وغيره من الفضاء ، فإن كونه في الفضاء والصحراء لا يفسد اعتكافه ، فكذلك السقف مثله ، وأما البيع والشراء من غير إحضار السلعة والميزان فلا بأس عندهم به ، وإنما أرادوا البيع بالقول فحسب لا إحضار السلع والأثمان ؛ وإنما جاز ذلك لأنه مباح ، فهو كسائر كلامه في الأمور المباحة .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صمت يوم إلى الليل فإذا كان الصمت محظورا فهو لا محالة مأمور بالكلام ، فسائر ما ينافي الصمت [ ص: 311 ] من مباح الكلام قد انتظمه اللفظ وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن صفية ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا ، فحدثته ثم قمت فانقلبت ، فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال صلى الله عليه وسلم : على رسلكما إنها صفية بنت حيي قالا : سبحان الله يا رسول الله قال : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ، أو قال : شرا فتشاغل في اعتكافه بمحادثة صفية ومشى معها إلى باب المسجد ، وهذا يبطل قول من قال : لا يتشاغل بالحديث ولا يقوم فيمشي إلى أملاك في المسجد ، وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا : حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلال الحجرة فأغسل رأسه وأرجله وأنا حائض .

وقد حوى هذا الخبر أحكاما : منها : إباحة غسل الرأس وهو في المسجد ، ومنها جواز المباشرة واللمس بغير شهوة للمعتكف ، ومنها جواز غسل الرأس في حال الاعتكاف ، وغسل الرأس إنما هو لإصلاح البدن ، فدل ذلك على أن للمعتكف أن يفعل ما فيه صلاح بدنه ، ودل أيضا على أنه له أن يشتغل بما فيه صلاح ماله ، كما أبيح له الاشتغال بإصلاح بدنه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قتال المؤمن كفر وسبابه فسق ، وحرمة ماله كحرمة دمه ودل أيضا على أن للمعتكف أن يتزين ؛ لأن ترجيل الرأس من الزينة ، ويدل على أن من كان في المسجد فأخرج رأسه فغسله كان غاسلا له في المسجد ، وهو يدل على قولهم فيمن حلف لا يغسل رأس فلان في المسجد أنه يحنث إن أخرج رأسه من المسجد فغسله والحالف خارج المسجد ، وأنه إنما يعتبر موضع المغسول لا الغاسل ؛ لأن الغسل لا يكون إلا وهو متصل به يقتضي وجود المغسول ، ولذلك قالوا فيمن حلف لا يضرب فلانا في المسجد : إنه يعتبر وجود المضروب في المسجد لا الضارب .

ويدل أيضا على طهارة يد الحائض وسؤرها وأن حيضها لا يمنع طهارة بدنها ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : ليس حيضك في يدك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية