الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل : وفحول النظار " كأبي عبد الله الرازي وأبي الحسن الآمدي " وغيرهما ذكروا حجج النفاة " لحلول الحوادث " وبينوا فسادها كلها . فذكروا لهم أربع حجج : ( إحداها : " الحجة المشهورة " وهي أنها لو قامت به لم يخل منها ومن أضدادها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث . ومنعوا المقدمة الأولى ; والمقدمة الثانية ; ذكر الرازي وغيره فسادها وقد بسط في غير هذا الموضع . و ( الثانية : أنه لو كان قابلا لها في الأزل لكان القبول من لوازم ذاته فكان القبول يستدعي إمكان المقبول ووجود الحوادث في الأزل محال وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة : بأنه قادر على إحداث الحوادث والقدرة تستدعي إمكان المقدور و " وجود المقدور " وهو الحوادث في الأزل محال و " هذه الحجة " باطلة من وجوه : ( أحدها أن يقال " وجود الحوادث " إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا ; فإن كان ممكنا أمكن قبولها والقدرة عليها دائما وحينئذ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعا ; بل يمكن أن يكون جنسها مقدورا مقبولا ; وإن كان ممتنعا فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى ; وحينئذ فلا تكون في الأزل ممكنة ; لا مقدورة ولا مقبولة ; وحينئذ فلا يلزم امتناعها بعد ذلك . فإن الحوادث موجودة ; فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها ; وهذا تقسيم حاصر يبين فساد " هذه الحجة " .

                ( الوجه الثاني : أن يقال - لا ريب أن الرب تعالى قادر ; فإما أن يقال إنه لم يزل قادرا - وهو الصواب - وإما أن يقال بل صار قادرا بعد أن لم يكن فإن قيل : لم يزل قادرا فيقال : إذا كان لم يزل قادرا فإن كان المقدور لم يزل ممكنا أمكن دوام وجود الممكنات فأمكن دوام وجود الحوادث ; وحينئذ فلا يمتنع كونه قابلا لها في الأزل . فإن قيل : بل كان الفعل ممتنعا ثم صار ممكنا . قيل : هذا جمع بين النقيضين فإن القادر لا يكون قادرا على ممتنع فكيف يكون قادرا على كون المقدور ممتنعا ثم يقال : بتقدير إمكان هذا قيل هو قادر في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال وكذلك في المقبول : يقال هو قابل في الأزل لما يمكن فيما لا يزال . ( الوجه الثالث : إذا قيل - هو قابل لما في الأزل فإنما هو قابل لما هو قادر عليه يمكن وجوده فأما ما يكون ممتنعا لا يدخل تحت القدرة فهذا ليس بقابل له .

                ( الرابع : أن يقال - هو قادر على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له ; وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمنع مثله لوجود المقدور المباين ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن وهو قادر عليه فالفعل أن يكون ممكنا مقدورا أولى . ( الحجة الثالثة لهم : أنهم قالوا : لو قامت به الحوادث للزم " تغيره " والتغير على الله محال وأبطلوا هم " هذه الحجة " الرازي وغيره ; بأن قالوا : ما تريدون بقولكم : لو قامت به تغير أتريدون بالتغير نفس قيامها به أم شيئا آخر ؟ فإن أردتم الأول كان المقدم هو الثاني والملزوم هو اللازم وهذا لا فائدة فيه فإنه يكون تقدير الكلام لو قامت به الحوادث لقامت به الحوادث وهذا كلام لا يفيد وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك فهو ممنوع فلا نسلم أنها لو قامت به لزم " تغير " غير حلول الحوادث فهذا جوابهم .

                وإيضاح ذلك : أن " لفظ التغير " لفظ مجمل فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت : إنها قد تغيرت ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى إنه تغير ولا يقولون إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب إنه تغير إذا كان ذلك عادته بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة كالشمس إذا زال نورها ظاهرا لا يقال إنها تغيرت فإذا اصفرت قيل تغيرت . وكذلك الإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير وكذلك إذا تغير خلقه ودينه مثل أن يكون فاجرا فينقلب ويصير برا أو يكون برا فينقلب فاجرا فإنه يقال قد تغير . وفي الحديث { رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم متغيرا لما رأى منه أثر الجوع ولم يزل يراه يركع ويسجد } " فلم يسم حركته تغيرا وكذلك يقال : فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة فإذا كان ثابتا على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له تغيرا .

                وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال إنه قد تغير قال الله تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } . ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل قيل : قد غيروا ما بأنفسهم مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة فتغير قلبه وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة فهذا قد غير ما في نفسه . وإذا كان هذا " معنى التغير " فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال والإكرام وكماله من لوازم ذاته فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله ويمتنع أن يصير ناقصا بعد كماله . و " هذا الأصل " عليه قول السلف وأهل السنة : أنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل قادرا ولم يزل موصوفا بصفات الكمال ولا يزال كذلك فلا يكون متغيرا وهذا معنى قول من يقول : يا من يغير ولا يتغير فإنه يحيل صفات المخلوقات ; ويسلبها ما كانت متصفة به إذا شاء ; ويعطيها من صفات الكمال ما لم يكن لها ; وكماله من لوازم ذاته ; لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال ; قال تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } وقال تعالى : { كل من عليها فان } { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }

                . ولكن " هؤلاء النفاة " هم الذين يلزمهم أن يكون قد تغير ; فإنهم يقولون : كان في الأزل لا يمكنه أن يقول شيئا ; ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ; وكان ذلك ممتنعا عليه لا يتمكن منه ثم صار الفعل ممكنا يمكنه أن يفعل . ولهم في " الكلام " قولان : من يثبت الكلام المعروف وقال : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته قال إنه صار الكلام ممكنا له بعد أن كان ممتنعا عليه ; ومن لم يصفه بالكلام المعروف ; بل قال : إنه يتكلم بلا مشيئة وقدرة كما تقوله الكلابية فهؤلاء أثبتوا كلاما لا يعقل ولم يسبقهم إليه أحد من المسلمين ; بل كان المسلمون قبلهم على " قولين " : فالسلف وأهل السنة يقولون : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه غير مخلوق . و " الجهمية " يقولون : إنه مخلوق بقدرته ومشيئته فقال هؤلاء بل يتكلم بلا مشيئته وقدرته وكلامه شيء واحد لازم لذاته وهو حروف أو حروف وأصوات : أزلية لازمة لذاته كما قد بسط في غير هذا الموضع .

                و ( المقصود أن هؤلاء كلهم الذين يمنعون أن الرب لم يزل يمكنه أن يفعل ما شاء ويقولون ذلك يستلزم وجود حوادث لا تتناهى وذلك محال فهؤلاء يقولون صار الفعل ممكنا له بعد أن كان ممتنعا عليه وحقيقة قولهم إنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا وهذا حقيقة التغير مع أنه لم يحدث سبب يوجب كونه قادرا . وإذا قالوا : هو في الأزل قادر على ما لا يزال . قيل هذا جمع بين النفي والإثبات فهو في الأزل كان قادرا . أفكان القول ممكنا له أو ممتنعا عليه ؟ إن قلتم : ممكن له فقد جوزتم دوام كونه فاعلا وأنه قادر على حوادث لا نهاية لها . وإن قلتم : بل كان ممتنعا . قيل القدرة على الممتنع مع كون الفعل ممتنعا غير ممكن - لا يكون مقدورا للقادر إنما المقدور هو الممكن لا الممتنع . فإذا قلتم : أمكنه بعد ذلك . فقد قلتم : إنه أمكنه أن يفعل بعد أن كان لا يمكنه أن يفعل وهذا صريح في أنه صار قادرا بعد أن لم يكن وهو صريح في التغير . فهؤلاء النفاة الذين قالوا : إن المثبتة يلزمهم القول بأنه " تغير " قد بان بطلان قولهم وأنهم هم الذين قالوا : بما يوجب تغيره . ( الحجة الرابعة : قالوا : حلول الحوادث به أفول ; والخليل قد قال : { لا أحب الآفلين } و " الآفل " هو المتحرك الذي تقوم له الحوادث فيكون " الخليل " قد نفى المحبة عمن تقوم به الحوادث فلا يكون إلها ; وإذا قال المنازع أنا أريد بكونه تغير أنه تكلم بمشيئته وقدرته وأنه يحب منا الطاعة ويفرح بتوبة التائب ويأتي يوم القيامة . قيل : فهب أنك سميت هذا تغيرا ; فلم قلت إن هذا ممتنع فهذا محل النزاع كما قال الرازي : فالمقدم هو الثاني .

                فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف " بالغيرة " وهي مشتقة من " التغير " فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته } " وقال أيضا " { لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل وأنزل الكتب ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن } " . وقال : " { أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني }

                . و ( الجواب : أن قصة الخليل حجة عليهم لا لهم ; وهم المخالفون لإبراهيم ولنبينا ولغيرهما من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وذلك أن الله تعالى قال : { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } { فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } . فقد أخبر الله في كتابه : أنه من حين بزغ الكوكب والقمر والشمس وإلى حين أفولها لم يقل الخليل : لا أحب البازغين ولا المتحركين ولا المتحولين ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث ولا قال شيئا مما يقوله النفاة حين أفل الكوكب والشمس والقمر .

                و " الأفول " باتفاق أهل اللغة والتفسير : هو الغيب والاحتجاب ; بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن وهو المراد باتفاق العلماء . فلم يقل إبراهيم : { لا أحب الآفلين } ( إلا حين أفل وغاب عن الأبصار فلم يبق مرئيا ولا مشهودا - فحينئذ قال { لا أحب الآفلين } - . وهذا يقتضي أن كونه متحركا منتقلا تقوم به الحوادث ; بل كونه جسما متحيزا تقوم به الحوادث لم يكن دليلا عند إبراهيم على نفي محبته . فإن كان إبراهيم إنما استدل " بالأفول " على أنه ليس رب العالمين - كما زعموا - : لزم من ذلك أن يكون ما يقوم به الأفول - من كونه متحركا منتقلا - تحله الحوادث ; بل ومن كونه جسما متحيزا : لم يكن دليلا عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين وحينئذ فيلزم أن تكون قصة إبراهيم حجة على نقيض مطلوبهم ; لا على تعيين مطلوبهم . وهكذا أهل البدع لا يكادون يحتجون " بحجة " سمعية ولا عقلية إلا وهي عند التأمل حجة عليهم ; لا لهم .

                ولكن " إبراهيم عليه السلام " لم يقصد بقوله { هذا ربي } إنه رب العالمين ولا كان أحد من قومه يقولون إنه رب العالمين من تجويز ذلك عليهم ; بل كانوا مشركين مقرين بالصانع ; وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابا يدعونها من دون الله ويبنون لها الهياكل وقد صنفت في مثل مذهبهم " كتب " : مثل " كتاب السر المكتوم : في السحر ومخاطبة النجوم " وغيره من الكتب . ولهذا قال الخليل : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } ولهذا قال الخليل في تمام الكلام : { إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } . بين أنه إنما يعبد الله وحده فله يوجه وجهه إذا توجه قصده إليه : يتبع قصده وجهه فالوجه توجه حيث توجه القلب فصار قلبه وقصده ووجهه متوجها إلى الله تعالى ولهذا قال : { وما أنا من المشركين } لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع فإن هذا كان معلوما عند قومه لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض وإنما كان النزاع في عبادة غير الله واتخاذه ربا ; فكانوا يعبدون الكواكب السماوية ويتخذون لها أصناما أرضية .

                وهذا " النوع الثاني من الشرك " فإن الشرك في قوم نوح كان أصله من عبادة الصالحين - أهل القبور - ثم صوروا تماثيلهم فكان شركهم بأهل الأرض ; إذ كان الشيطان إنما يضل الناس بحسب الإمكان فكان ترتيبه " أولا " الشرك بالصالحين أيسر عليه . ثم قوم إبراهيم انتقلوا إلى الشرك بالسماويات : بالكواكب وصنعوا لها " الأصنام " بحسب ما رأوه من طبائعها يصنعون لكل كوكب طعاما وخاتما وبخورا وأموالا تناسبه وهذا كان قد اشتهر على عهد إبراهيم إمام الحنفاء ; ولهذا قال الخليل : { ماذا تعبدون } { أئفكا آلهة دون الله تريدون } { فما ظنكم برب العالمين } وقال لهم : { أتعبدون ما تنحتون } { والله خلقكم وما تعملون } وقصة إبراهيم قد ذكرت في غير موضع من القرآن مع قومه : إنما فيها نهيهم عن الشرك ; خلاف قصة موسى مع فرعون فإنها ظاهرة في أن فرعون كان مظهرا الإنكار للخالق وجحوده .

                وقد ذكر الله عن إبراهيم أنه حاج الذي حاجه في ربه في قوله : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } فهذا قد يقال : إنه كان جاحدا للصانع ومع هذا فالقصة ليست صريحة في ذلك ; بل يدعو الإنسان إلى عبادة نفسه وإن كان لا يصرح بإنكار الخالق مثل إنكار فرعون . وبكل حال " فقصة إبراهيم " إلى أن تكون حجة عليهم أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم وهذا بين - ولله الحمد - بل ما ذكره الله عن إبراهيم يدل على أنه كان يثبت ما ينفونه عن الله ; فإن إبراهيم قال : { إن ربي لسميع الدعاء } والمراد به : أنه يستجيب الدعاء كما يقول المصلي سمع الله لمن حمده وإنما يسمع الدعاء ويستجيبه بعد وجوده ; لا قبل وجوده كما قال الله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } . فهي تجادل وتشتكي حال سمع الله تحاورهما ; وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وقال : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } فهذه رؤية مستقلة ونظر مستقل وقد تقدم أن المعدوم لا يرى ولا يسمع منفصلا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء فإذا وجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها .

                و " الرؤية " و " السمع " أمر وجودي لا بد له من موصوف يتصف به فإذا كان هو الذي رآها وسمعها امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع وهذه الرؤية . وأن تكون قائمة بغيره فتعين قيام هذا السمع وهذه الرؤية به بعد أن خلقت الأعمال والأقوال وهذا مطعن لا حيلة فيه . وقد بسط الكلام على " هذه المسألة " وما قال فيها عامة الطوائف في غير هذا الموضع وحكيت ألفاظ الناس بحيث يتيقن الإنسان أن النافي ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية ; وأن الأدلة العقلية الصريحة موافقة لمذهب السلف وأهل الحديث ; وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة مع " الكتب المتقدمة " : التوراة والإنجيل والزبور فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء وأقوال السلف وأئمة العلماء ودلت عليها صرائح المعقولات . فالمخالف فيها كالمخالف في أمثالها ممن ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية بل هو شبيه بالذين قالوا : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }

                . قال الله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ولكن " هذه المسألة " و " مسألة الزيارة " وغيرهما حدث من المتأخرين فيها شبه . وأنا وغيري كنا على " مذهب الآباء " في ذلك نقول في " الأصلين " بقول أهل البدع ; فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فكان الواجب هو اتباع الرسول ; وأن لا نكون ممن قيل فيه : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا } وقد قال تعالى : { قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } وقال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون }

                . فالواجب اتباع الكتاب المنزل والنبي المرسل وسبيل من أناب إلى الله فاتبعنا الكتاب والسنة كالمهاجرين والأنصار ; دون ما خالف ذلك من دين الآباء وغير الآباء والله يهدينا وسائر إخواننا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . والله سبحانه أنزل القرآن وهدى به الخلق وأخرجهم به من الظلمات إلى النور ; وأم القرآن هي فاتحة الكتاب . قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله : أثنى علي عبدي فإذا قال : { مالك يوم الدين } قال الله : مجدني عبدي فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله : هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل } " . فهذه " السورة " فيها لله الحمد . فله الحمد في الدنيا والآخرة وفيها للعبد السؤال وفيها العبادة لله وحده وللعبد الاستعانة فحق الرب حمده وعبادته وحده وهذان " حمد الرب وتوحيده " يدور عليهما جميع الدين

                التالي السابق


                الخدمات العلمية