الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                و " مسألة الصفات الاختيارية " هي من تمام حمده فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود ألبتة ولا أنه رب العالمين فإن الحمد ضد الذم والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له والذم هو الإخبار بمساوئ المذموم مع البغض له وجماع المساوئ فعل الشر كما أن جماع المحاسن فعل الخير . فإذا كان يفعل الخير - بمشيئته وقدرته استحق " الحمد " . فمن لم يكن له فعل اختياري يقوم به ; بل ولا يقدر على ذلك لا يكون خالقا ولا ربا للعالمين . [ ص: 260 ] وقوله : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } - ونحو ذلك - فإذا لم يكن له فعل يقوم به باختياره امتنع ذلك كله . فإنه من المعلوم بصريح " العقل " أنه إذا خلق السموات والأرض فلا بد من فعل يصير به خالقا ; وإلا فلو استمر الأمر على حال واحدة - لم يحدث فعل - لكان الأمر على ما كان قبل أن يخلق وحينئذ فلم يكن المخلوق موجودا فكذلك يجب أن لا يكون المخلوق موجودا إن كان الحال في المستقبل مثل ما كان في الماضي لم يحدث من الرب فعل هو خلق السموات والأرض .

                وقد قال تعالى : { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } . ومعلوم أنهم قد شهدوا نفس المخلوق فدل على أن " الخلق " لم يشهدوه وهو تكوينه لها وإحداثه لها ; غير المخلوق الباقي . وأيضا فإنه قال { خلق السماوات والأرض في ستة أيام } . فالخلق لها كان في ستة أيام وهي موجودة بعد المشيئة فالذي اختص بالمشيئة غير الموجود بعد المشيئة وكذلك { الرحمن الرحيم } فإن الرحمن الرحيم هو الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته فإن لم يكن له رحمة إلا نفس إرادة قديمة ; أو صفة أخرى قديمة : لم يكن موصوفا بأنه يرحم من يشاء ويعذب من يشاء قال الخليل : { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير } { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } فالرحمة ضد التعذيب والتعذيب فعله وهو يكون بمشيئته ; كذلك الرحمة تكون بمشيئته ; كما قال : { ويرحم من يشاء }

                . والإرادة القديمة اللازمة لذاته - أو صفة أخرى لذاته - ليست بمشيئته ; فلا تكون الرحمة بمشيئته . وإن قيل : ليس بمشيئته إلا المخلوقات المباينة لزم أن لا تكون صفة للرب بل تكون مخلوقة له وهو إنما يتصف بما يقوم به لا يتصف بالمخلوقات فلا يكون هو الرحمن الرحيم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي } - وفي رواية - تسبق غضبي " . وما كان سابقا لما يكون بعده لم يكن إلا بمشيئة الرب وقدرته . ومن قال : ما ثم رحمة إلا إرادة قديمة أو ما يشبهها امتنع أن يكون له غضب مسبوق بها فإن الغضب إن فسر بالإرادة فالإرادة لم تسبق نفسها وكذلك إن فسر بصفة قديمة العين فالقديم لا يسبق بعضه بعضا وإن فسر بالمخلوقات لم يتصف برحمة ولا غضب ; وهو قد فرق بين غضبه وعقابه بقوله : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وقوله : { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : [ ص: 262 ] " { أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون } "

                . ويدل على ذلك قوله : { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } فعلق الرحمة بالمشيئة كما علق التعذيب . وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من " الصفات الاختيارية " .

                وكذلك كونه مالكا ليوم الدين يوم يدين العباد بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر يوم الدين وما أدراك ما يوم الدين { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } . فإن " الملك " هو الذي يتصرف بأمر فيطاع ولهذا إنما يقال " ملك " للحي المطاع الأمر لا يقال في الجمادات : لصاحبها " ملك " ; إنما يقال له : " مالك " ويقال ليعسوب النحل : " ملك النحل " لأنه يأمر فيطاع والمالك القادر على التصريف في المملوك . وإذا كان " الملك " هو الآمر الناهي المطاع فإن كان يأمر وينهى بمشيئته كان أمره ونهيه من " الصفات الاختيارية " وبهذا أخبر القرآن قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } . وإن كان لا يأمر وينهى بمشيئته - بل أمره لازم له حاصل بغير مشيئته ولا قدرته - لم يكن هذا مالكا أيضا ; بل هذا أولى أن يكون مملوكا فإن الله تعالى خلق الإنسان وجعل له صفات تلزمه - كاللون والطول والعرض والحياء [ ص: 263 ] ونحو ذلك مما يحصل لذاته بغير اختياره - فكان باعتبار ذلك مملوكا مخلوقا للرب فقط وإنما يكون " ملكا " إذا كان يأمر وينهى باختياره فيطاع - وإن كان الله خالقا لفعله ولكل شيء .

                ولكن المقصود أنه لا يكون " ملكا " إلا من يأمر وينهى بمشيئته وقدرته بل من قال إنه لازم له بغير مشيئته أو قال إنه مخلوق له فكلاهما يلزمه أنه لا يكون " ملكا " وإذا لم يمكنه أن يتصرف بمشيئته لم يكن " مالكا " أيضا . فمن قال إنه لا يقوم به " فعل اختياري " لم يكن عنده في الحقيقة مالكا لشيء وإذا اعتبرت سائر القرآن وجدت أنه من لم يقر " بالصفات الاختيارية " لم يقم بحقيقة الإيمان ولا القرآن فهذا يبين أن الفاتحة وغيرها يدل على " الصفات الاختيارية " وقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } فيه إخلاص العبادة لله والاستعانة به وأن المؤمنين لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا بالله ; فمن دعا غير الله من المخلوقين أو استعان بهم : من أهل القبور وغيرهم لم يحقق قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } ولا يحقق ذلك إلا من فرق بين " الزيارة الشرعية " و " الزيارة البدعية " .

                فإن " الزيارة الشرعية " عبادة لله وطاعة لرسوله وتوحيد لله وإحسان إلى عباده وعمل صالح من الزائر يثاب عليه .

                و " الزيارة البدعية " شرك بالخالق وظلم للمخلوق وظلم للنفس . فصاحب الزيارة الشرعية هو الذي يحقق قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } . ألا ترى أن اثنين لو شهدا جنازة فقام أحدهما يدعو للميت ويقول : اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر وأفسح له في قبره ونور له فيه ونحو ذلك من الدعاء له . وقام الآخر فقال : يا سيدي أشكو لك ديوني وأعدائي وذنوبي . أنا مستغيث بك مستجير بك أغثني ونحو ذلك ; لكان الأول عابدا لله ومحسنا إلى خلقه محسنا إلى نفسه بعبادة الله ونفعه عباده وهذا الثاني مشركا مؤذيا ظالما معتديا على الميت ظالما لنفسه . فهذا بعض ما بين " البدعية " و " الشرعية " من الفروق . والمقصود أن صاحب " الزيارة الشرعية " إذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } كان صادقا ; لأنه لم يعبد إلا الله ولم يستعن إلا به وأما صاحب " الزيارة البدعية " فإنه عبد غير الله واستعان بغيره .

                فهذا بعض ما يبين أن " الفاتحة " أم القرآن : اشتملت على بيان المسألتين المتنازع فيهما : " مسألة الصفات الاختيارية " " ومسألة الفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية " . والله تعالى هو المسئول أن يهدينا وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . [ ص: 265 ] ومما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال أثنى علي عبدي . فإذا قال : { مالك يوم الدين } قال الله : مجدني عبدي فذكر الحمد والثناء والمجد . بعد ذلك يقول : { إياك نعبد وإياك نستعين } إلى آخرها هذا في أول القراءة في قيام الصلاة .

                ثم في آخر القيام بعد الركوع يقول : ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض . إلى قوله : أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
                } . وقوله : أحق ما قال العبد . خبر مبتدأ محذوف : أي هذا الكلام أحق ما قال العبد . فتبين أن حمد الله والثناء عليه أحق ما قاله العبد وفي ضمنه توحيده له إذا قال : ولك الحمد أي لك لا لغيرك وقال في آخره لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت وهذا يقتضي انفراده بالعطاء والمنع فلا يستعان إلا به ولا يطلب إلا منه . ثم قال : ولا ينفع ذا الجد منك الجد فبين أن الإنسان وإن أعطي الملك والغنى والرئاسة فهذا لا ينجيه منك ; إنما ينجيه الإيمان والتقوى وهذا تحقيق قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } فكان هذا الذكر في آخر القيام ; لأنه ذكر أول القيام وقوله أحق ما قال العبد يقتضي أن يكون حمد الله أحق الأقوال بأن يقوله العبد ; وما كان أحق الأقوال كان أفضلها وأوجبها على الإنسان . ولهذا افترض الله على عباده في كل صلاة أن يفتتحوها بقولهم : { الحمد لله رب العالمين } وأمرهم أيضا أن يفتتحوا كل خطبة " بالحمد لله " فأمرهم أن [ ص: 266 ] يكون مقدما على كل كلام سواء كان خطابا للخالق أو خطابا للمخلوق ولهذا يقدم النبي صلى الله عليه وسلم الحمد أمام الشفاعة يوم القيامة ولهذا أمرنا بتقديم الثناء على الله في التشهد قبل الدعاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم .

                وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء
                } . وقوله { الرحمن الرحيم } جعله ثناء . وقوله { مالك يوم الدين } جعله تمجيدا . وقوله : { الحمد لله } حمد مطلق . فإن " الحمد " اسم جنس والجنس له كمية وكيفية ; فالثناء كميته . وتكبيره وتعظيمه كيفيته و " المجد " هو السعة والعلو فهو يعظم كيفيته وقدره وكميته المتصلة وذلك أن هذا وصف له بالملك . و " الملك " يتضمن القدرة وفعل ما يشاء و { الرحمن الرحيم } وصف بالرحمة المتضمنة لإحسانه إلى العباد بمشيئته وقدرته أيضا والخير يحصل بالقدرة والإرادة التي تتضمن الرحمة . فإذا كان قديرا مريدا للإحسان : حصل كل خير وإنما يقع النقص لعدم القدرة أو لعدم إرادة الخير " فالرحمن الرحيم الملك " قد اتصف بغاية إرادة الإحسان وغاية القدرة ; وذلك يحصل به خير الدنيا والآخرة . وقوله : { مالك يوم الدين } مع أنه " ملك الدنيا " لأن يوم الدين لا يدعي أحد فيه منازعة وهو اليوم الأعظم فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع و " الدين " عاقبة أفعال العباد وقد يدل بطريق التنبيه وبطريق العموم عند بعضهم : على ملك الدنيا فيكون له الملك [ ص: 267 ] وله الحمد كما قال تعالى : { له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } وذلك يقتضي أنه قادر على أن يرحم ورحمته وإحسانه وصف له يحصل بمشيئته وهو من " الصفات الاختيارية " . وفي الصحيح " { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن يقول : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرا لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري : فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ; وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان } " . فسأله بعلمه وقدرته ومن فضله وفضله يحصل برحمته وهذه الصفات هي جماع صفات الكمال لكن " العلم " له عموم التعلق : يتعلق بالخالق والمخلوق والموجود والمعدوم ; وأما " القدرة " فإنما تتعلق بالمخلوق ; وكذلك " الملك " إنما يكون ملكا على المخلوقات . " فالفاتحة " اشتملت على الكمال في " الإرادة " وهو الرحمة وعلى الكمال في " القدرة " وهو ملك يوم الدين وهذا إنما يتم " بالصفات الاختيارية " كما تقدم . والله سبحانه وتعالى أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية