الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 485 ] قال شيخ الإسلام : في " رسالته إلى أهل البحرين " واختلافهم في صلاة الجمعة : والذي أوجب هذا : أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في " رؤية الكفار ربهم " ; وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد فالأمر في ذلك خفيف . وإنما المهم الذي يجب على كل مسلم اعتقاده : أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة وبعد ما يدخلون الجنة على ما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند العلماء بالحديث ; فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم { أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر والشمس عند الظهيرة لا يضام في رؤيته } . و " رؤيته سبحانه " هي أعلى مراتب نعيم الجنة وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين ; وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله ومعرفتهم به .

                [ ص: 486 ] والذي عليه جمهور " السلف " أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر ; فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر . والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة قد دون العلماء فيها " كتبا " مثل : " كتاب الرؤية " للدارقطني ولأبي نعيم وللآجري ; وذكرها المصنفون في السنة كابن بطة واللالكائي وابن شاهين وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل وحنبل بن إسحاق والخلال والطبراني وغيرهم . وخرجها أصحاب الصحيح والمساند والسنن وغيرهم . فأما " مسألة رؤية الكفار " فأول ما انتشر الكلام فيها وتنازع الناس فيها - فيما بلغنا - بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة وأمسك عن الكلام في هذا قوم من العلماء وتكلم فيها آخرون فاختلفوا فيها على " ثلاثة أقوال " مع أني ما علمت أن أولئك المختلفين فيها تلاعنوا ولا تهاجروا فيها ; إذ في الفرق الثلاثة قوم فيهم فضل وهم أصحاب سنة .

                والكلام فيها قريب من الكلام في مسألة " محاسبة الكفار " هل يحاسبون أم لا ؟ هي مسألة لا يكفر فيها بالاتفاق والصحيح أيضا أن لا يضيق فيها ولا يهجر وقد حكي عن أبي الحسن بن بشار أنه قال : لا يصلى خلف من يقول : إنهم يحاسبون . والصواب الذي عليه الجمهور أنه يصلى خلف الفريقين بل يكاد الخلاف بينهم يرتفع عند التحقيق ; مع أنه قد اختلف فيها [ ص: 487 ] أصحاب الإمام أحمد وإن كان أكثرهم يقولون : لا يحاسبون واختلف فيها غيرهم من أهل العلم وأهل الكلام . وذلك أن " الحساب " قد يراد به الإحاطة بالأعمال وكتابتها في الصحف وعرضها على الكفار وتوبيخهم على ما عملوه وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق . وقد يراد " بالحساب " وزن الحسنات بالسيئات ليتبين أيهما أرجح : فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته ; إذ أعماله كلها حابطة وإنما توزن لتظهر خفة موازينه لا ليتبين رجحان حسنات له . وقد يراد " بالحساب " أن الله : هل هو الذي يكلمهم أم لا ؟ فالقرآن والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ وتقريع وتبكيت لا تكليم تقريب وتكريم ورحمة وإن كان من العلماء من أنكر تكليمهم جملة . والأقوال الثلاثة في " رؤية الكفار " :

                ( أحدها أن الكفار لا يرون ربهم بحال لا المظهر للكفر ولا المسر له وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين وعليه يدل عموم كلام المتقدمين وعليه جمهور أصحاب الإمام أحمد وغيرهم . ( الثاني : أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة ومنافقيها وغبرات من أهل الكتاب وذلك في عرصة القيامة ثم يحتجب عن المنافقين [ ص: 488 ] فلا يرونه بعد ذلك وهذا قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة وقد ذكر القاضي أبو يعلى نحوه في حديث إتيانه سبحانه وتعالى لهم في الموقف الحديث المشهور . ( الثالث : أن الكفار يرونه رؤية تعريف وتعذيب - كاللص إذا رأى السلطان - ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم وهذا قول أبي الحسن بن سالم وأصحابه وقول غيرهم ; وهم في الأصول منتسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل وأبي سهل بن عبد الله التستري . وهذا مقتضى قول من فسر " اللقاء " في كتاب الله بالرؤية ; إذ طائفة من أهل السنة منهم أبو عبد الله بن بطة الإمام قالوا في قول الله : { الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } وفي قوله : { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } وفي قول الله : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } وفي قوله : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } وفي قوله : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } إن اللقاء يدل على الرؤية والمعاينة .

                وعلى هذا المعنى فقد استدل المثبتون بقوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } . ومن أهل السنة من قال " اللقاء " إذا قرن بالتحية فهو من الرؤية وقال ابن بطة : سمعت أبا عمر الزاهد اللغوي يقول : سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى [ ص: 489 ] بغلنا يقول في قوله : { وكان بالمؤمنين رحيما } { تحيتهم يوم يلقونه سلام } أجمع أهل اللغة أن اللقاء هاهنا لا يكون إلا معاينة ونظرة بالأبصار . وأما " الفريق الأول " فقال بعضهم : ليس الدليل من القرآن على رؤية المؤمنين ربهم قوله : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } وإنما الدليل آيات أخر مثل قوله : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } وقوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وقوله : { إن الأبرار لفي نعيم } { على الأرائك ينظرون } وقوله : { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } إلى غير ذلك . ومن أقوى ما يتمسك به المثبتون : ما رواه مسلم في صحيحه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : هل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال : فيلقى العبد فيقول : أي فلان ألم أكرمك ؟ ألم أسودك ؟ ألم أزوجك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع ؟ قال : فيقول : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : يا رب لا . قال : فاليوم أنساك كما نسيتني . قال : فيلقى الثاني فيقول : ألم أكرمك ؟ ألم أسودك ؟ ألم أزوجك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع ؟ [ ص: 490 ] قال : فيقول : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : يا رب لا . قال : فاليوم أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثالث : فيقول له مثل ذلك . فيقول : يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقال : ألا نبعث شاهدنا عليك فيتفكر في نفسه من يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه : انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق الذي سخط الله عليه } . إلى هنا رواه مسلم .

                وفي رواية غيره - وهي مثل روايته سواء صحيحة - قال : { ثم ينادي مناد ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد قال : فتتبع أولياء الشياطين الشياطين قال : واتبعت اليهود والنصارى أولياءهم إلى جهنم ثم نبقى أيها المؤمنون فيأتينا ربنا وهو ربنا فيقول : علام هؤلاء قيام ؟ فنقول نحن عباد الله المؤمنون عبدناه وهو ربنا وهو آتينا ويثيبنا وهذا مقامنا . فيقول : أنا ربكم فامضوا قال : فيوضع الجسر وعليه كلاليب من النار تخطف الناس فعند ذلك حلت الشفاعة لي اللهم سلم اللهم سلم قال : فإذا جاءوا الجسر فكل من أنفق زوجا من المال مما يملك في سبيل الله فكل خزنة الجنة يدعونه : يا عبد الله يا مسلم هذا خير فتعال يا عبد الله يا مسلم هذا خير فتعال فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ذلك العبد لا توى عليه يدع بابا ويلج من آخر فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على منكبيه وقال : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون منهم } . [ ص: 491 ] وهذا حديث صحيح . وفيه أن الكافر والمنافق يلقى ربه . ويقال : ظاهره أن الخلق جميعهم يرون ربهم فيلقى الله العبد عند ذلك . لكن قال ابن خزيمة والقاضي أبو يعلى وغيرهما " اللقاء " الذي في الخبر غير الترائي ; لا أن الله تراءى لمن قال له هذا القول وهؤلاء يقولون : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم ; لأنهم قالوا : هل نرى ربنا ؟ والضمير عائد على المؤمنين فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكافر يلقى ربه فيوبخه ثم بعد ذلك تتبع كل أمة ما كانت تعبد ثم بعد ذلك يراه المؤمنون .

                يبين ذلك أن في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد عن أبي هريرة : { أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا . يا رسول الله . قال : فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ; فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيعرفونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من جاوز من الرسل بأمته ; ولا [ ص: 492 ] يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا نعم . قال : فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم المجازى حتى ينجو حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ; فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار - وهو آخر أهل النار دخولا الجنة - فيقبل بوجهه قبل النار فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيقول : هل عسيت إن فعل بك ذلك أن لا تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا وعزتك فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل به على الجنة ورأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال : يا رب قدمني عند باب الجنة .

                فيقول الله له : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت ؟ فيقول : يا رب لا أكون أشقى خلقك . فيقول ; هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن لا تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا . وعزتك لا أسأل غير ذلك فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول : يا رب أدخلني الجنة . فيقول الله : ويحك يا ابن آدم ما أغدرك ؟ أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير [ ص: 493 ] الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله منه ; ثم يؤذن له في دخول الجنة فيقول : تمن . فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله : من كذا وكذا أقبل يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله : لك ذلك ومثله معه
                }

                . قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله : لك ذلك وعشرة أمثاله } قال أبو هريرة : لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله : { لك ذلك ومثله معه } قال أبو سعيد : إني سمعته يقول : { لك ذلك وعشرة أمثاله } . وفي رواية في الصحيح قال : وأبو سعيد مع أبي هريرة لا يرد عليه في حديثه شيئا حتى إذا قال أبو هريرة : { إن الله قال : ذلك لك ومثله معه } قال أبو سعيد الخدري : { وعشرة أمثاله } يا أبا هريرة . فهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض وقد اتفق أبو هريرة وأبو سعيد وليس فيه ذكر الرؤية إلا بعد أن تتبع كل أمة ما كانت تعبد . وقد روي بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : { يجمع الله الناس يوم القيامة قال : فينادي مناد : يا أيها الناس ; ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم إلى من كان يعبد في الدنيا ؟ ويتولى قال : ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويمثل لمن [ ص: 494 ] كان يعبد عزيرا شيطان عزير حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما ; فيقال لهم : ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس ؟ فيقولون : إن لنا ربا ما رأيناه بعد ; قال : فيقال : فبم تعرفون ربكم إذا رأيتموه ؟ قالوا بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه . قيل : وما هو ؟ قالوا : يكشف عن ساق } وذكر الحديث . ففي هذا الحديث أن المؤمنين لم يروه قبل تجليه لهم خاصة وأصحاب القول الآخر يقولون : معنى هذا لم يروه مع هؤلاء الآلهة التي يتبعها الناس فلذلك لم يتبعوا شيئا . يدل على ذلك ما في الصحيحين أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري { قلنا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم . فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما .

                إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب ; فيدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزير ابن الله . فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة [ ص: 495 ] ولا ولد فماذا تبغون ؟ قالوا : عطشنا يا رب فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون ؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم يدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون ؟ فيقولون . عطشنا يا رب فاسقنا قال : فيشار إليهم ألا تردون ؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها - وفي رواية - قال : فيأتيهم الجبار في صورة غير الصورة التي رأوها أول مرة قال : فما تنتظرون : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا : يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم .

                فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا - مرتين أو ثلاثا ; حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب - فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم . فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا . ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون : اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها : السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير [ ص: 496 ] وكأجاود الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار
                } . ففي هذا الحديث ما يستدل به على أنهم رأوه أول مرة قبل أن يقول : ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون .

                وهي " الرؤية الأولى " العامة التي في " الرؤية الأولى " عن أبي هريرة ; فإنه أخبر في ذلك الحديث بالرؤية واللقاء ثم بعد ذلك يقول ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون . وكذلك جاء مثله في حديث صحيح من رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول : ألا يتبع الناس ما كانوا يعبدون فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب النار ناره ولصاحب التصوير تصويره فيتبعون ما كانوا يعبدون ; ويبقى المسلمون فيطلع عليهم رب العالمين فيقول : ألا تتبعون الناس فيقولون : نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم ; ثم يتوارى ثم يطلع فيقول ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا ويثبتهم . قالوا وهل نراه يا رسول الله ؟ قال : فإنكم لا تتمارون في رؤيته تلك الساعة ثم يتوارى ثم يطلع عليهم فيعرفهم نفسه ثم يقول : أنا ربكم فاتبعوني فيقوم المسلمون ويوضع الصراط }

                . [ ص: 497 ] وأبين من هذا كله في أن " الرؤية الأولى " عامة لأهل الموقف : حديث أبي رزين العقيلي - الحديث الطويل - قد رواه جماعة من العلماء وتلقاه أكثر المحدثين بالقبول وقد رواه ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " وذكر أنه لم يحتج فيه إلا بالأحاديث الثابتة قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم { فتخرجون من الأصوى ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال : قلت : يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال : أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ؟ : الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما في ساعة واحدة ويريانكم ولا تضامون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو على أن يراكم وترونه أقدر منهما على أن يرياكم وتروهما . قلت : يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه ؟ قال : تعرضون عليه بادية له صفحاتكم ولا يخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما يخطئ وجه واحد منكم قطرة فأما المؤمن فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء ; وأما الكافر فتخطمه مثل الحمم الأسود ; إلا ثم ينصرف نبيكم صلى الله عليه وسلم فيمر على أثره الصالحون - أو قال - ينصرف على إثره الصالحون ; قال : فيسلكون جسرا من النار } وذكر حديث " الصراط " . وقد روى أهل السنن : قطعة من حديث أبي رزين بإسناد جيد { عن أبي رزين قال : قلت : يا رسول الله أكلنا يرى ربه يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر مخليا به ؟ قلت : بلى . قال : فالله أعظم } . [ ص: 498 ] فهذا الحديث فيه أن قوله : { تنظرون إليه وينظر إليكم } عموم لجميع الخلق كما دل عليه سياقه . وروى ابن خزيمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : { والله ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر - أو قال - ليلة يقول : ابن آدم ما غرك بي ؟ ابن آدم ما عملت فيما علمت ؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ }

                . فهذه أحاديث مما يستمسك بها هؤلاء فقد تمسك بعضهم بقوله سبحانه وتعالى : { فلما رأوه زلفة } واعتقدوا أن الضمير عائد إلى الله وهذا غلط ; فإن الله سبحانه وتعالى قال : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } فهذا يبين أن الذي رأوه هو الوعد أي : الموعود به من العذاب ألا تراه يقول : { وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } ؟ وتمسكوا بأشياء باردة فهموها من القرآن ليس فيها دلالة بحال . وأما الذين خصوا " بالرؤية " أهل التوحيد في الظاهر - مؤمنهم ومنافقهم - فاستدلوا بحديث أبي هريرة وأبي سعيد المتقدمين كما ذكرناهما وهؤلاء الذين يثبتون رؤيته لكافر ومنافق إنما يثبتونها مرة واحدة أو مرتين لمنافقين " رؤية تعريف " ثم يحتجب عنهم بعد ذلك في العرصة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية