الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها : ويشتمل على مسائل كثيرة في أحكام المفتي والمستفتي . تقدم قريبا تحريم الحكم والفتيا بالهوى ، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعا . واعلم أن السلف الصالح رحمهم الله كانوا يهابون الفتيا ، ويشددون فيها ، ويتدافعونها . وأنكر الإمام أحمد رحمه الله وغيره على من تهجم في الجواب . وقال : لا ينبغي أن يجيب في كل ما يستفتى . وقال : إذا هاب الرجل شيئا لا ينبغي أن يحمل على أن يقول . إذا علمت ذلك : ففي وجوب تقديم معرفة فروع الفقه على أصوله وجهان . وأطلقهما في الفروع .

أحدهما : يجب تقديم معرفة فروع الفقه . اختاره القاضي ، وغيره قال في آداب المفتي : وهو أولى .

والثاني : يجب تقديم معرفة أصول الفقه . اختاره ابن عقيل ، وابن البنا ، وغيرهما . قال في آداب المفتي : وقد أوجب ابن عقيل ، وغيره : تقديم معرفة أصول الفقه على فروعه . ولهذا ذكره أبو بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، وابن البنا ، في أوائل كتبهم الفروعية . [ ص: 186 ] وقال أبو البقاء العكبري : أبلغ ما يتوصل به إلى إحكام الأحكام : إتقان أصول الفقه ، وطرف من أصول الدين . انتهى . وقال ابن قاضي الجبل في أصوله ، تبعا لمسودة ابن تيمية ، والرعاية الكبرى : تقديم معرفتها أولى من الفروع عند ابن عقيل ، وغيره . قلت : في غير فرض العين . وعند القاضي : عكسه . فظاهر كلامهم : أن الخلاف في الأولوية ، ولعله أولى . وكلام غيرهم في الوجوب . وتقدم : هل للمفتي الأخذ من المستفتي إذا كان له كفاية ، أم لا ؟ ويأتي : هل له أخذ الهدية أم لا ؟ عند أحكام هدية الحاكم . والمفتي : من يبين الحكم الشرعي ، ويخبر به من غير إلزام . والحاكم : من يبينه ويلزم به . قاله شيخنا في حواشي الفروع . ولا يفتي في حال لا يحكم فيها ، كغضب ونحوه . على ما يأتي في كلام المصنف . قال ابن مفلح في أصوله : فظاهره يحرم كالحكم . وقال في الرعاية الكبرى : لا يفتي في هذه الحال . فإن أفتى وأصاب : صح وكره .

وقيل : لا يصح . ويأتي نظيره في قضاء الغضبان ونحوه وتصح فتوى العبد والمرأة والقريب والأمي والأخرس المفهوم الإشارة أو الكتابة . وتصح مع جر النفع ودفع الضرر . وتصح من العدو ، على الصحيح من المذهب . قدمه في الرعاية ، وآداب المفتي ، والفروع في " باب أدب القاضي " . [ ص: 187 ] وقيل : لا تصح كالحاكم والشاهد . ولا تصح من فاسق لغيره ، وإن كان مجتهدا ، لكن يفتي نفسه ولا يسأل غيره . وقال الطوفي في مختصره ، وغيره : لا تشترط عدالته في اجتهاده ، بل في قبول فتياه وخبره . وقال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين ، قلت : الصواب جواز استفتاء الفاسق ، إلا أن يكون معلنا بفسقه ، داعيا إلى بدعته . فحكم استفتائه حكم إمامته وشهادته . ولا تصح من مستور الحال أيضا . على الصحيح من المذهب . قدمه في الفروع ، وغيره من الأصوليين . وقيل : تصح . قدمه في آداب المفتي . وعمل الناس عليه . وصححه في الرعاية الكبرى . واختاره الشيخ ابن القيم في أعلام الموقعين . وقيل : تصح إن اكتفينا بالعدالة الظاهرة ، وإلا فلا . والحاكم كغيره في الفتيا . على الصحيح من المذهب . وقيل : يكره له مطلقا . وقيل : يكره في مسائل الأحكام المتعلقة به ، دون الطهارة والصلاة ، ونحوهما .

ويحرم تساهل مفت ، وتقليد معروف به . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : لا يجوز استفتاء إلا من يفتي بعلم وعدل . ونقل المروذي : لا ينبغي أن يجيب في كل ما يستفتى فيه . ويأتي : هل له قبول الهدية ، أم لا ؟ وليس لمن انتسب إلى مذهب إمام في مسألة ذات قولين أو وجهين : أن [ ص: 188 ] يتخير . فيعمل أو يفتي بأيهما شاء ، بل إن علم تاريخ القولين : عمل بالمتأخر ، إن صرح برجوعه عن الأول . وكذا إن أطلق . على الصحيح من المذهب فيهما . وهل يجوز العمل بأحدهما إذا ترجح أنه مذهب لقائلهما ؟ وقال في آداب المفتي : إذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح بالدليل اختلافا بين أئمة المذاهب في الأصح من القولين أوالوجهين ، فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بآرائهم . فيعمل بقول الأكثر والأعلم والأورع . فإن اختص أحدهما بصفة منها ، والآخر بصفة أخرى : قدم الذي هو أحرى منهما بالصواب . فالأعلم الأورع : مقدم على الأورع العالم . وكذلك إذا وجد قولين أو وجهين ، ولم يبلغه عن أحد من أئمته بيان الأصح منهما : اعتبر أوصاف ناقليهما وقابليهما . ويرجح ما وافق منهما أئمة أكثر المذاهب المتبوعة ، أو أكثر العلماء . انتهى . قلت : وفيما قاله نظر . وتقدم في آخر الخطبة تحرير ذلك . وإذا اعتدل عنده قولان وقلنا : يجوز أفتى بأيهما شاء . قاله القاضي في الكفاية ، وابن حمدان ، وصاحب الفروع ، وغيرهم . كما يجوز للمفتي أن يعمل بأي القولين شاء . وقيل : يخير المستفتي ، وإلا تعين الأحوط .

ويلزم المفتي تكرير النظر عند تكرر الواقعة مطلقا . على الصحيح من المذهب . [ ص: 189 ] جزم به القاضي ، وابن عقيل . وقال : وإلا كان . مقلدا لنفسه . لاحتمال تغير اجتهاده . وقدمه ابن مفلح في أصوله . وقيل : لا يلزمه . لأن الأصل بقاء ما اطلع عليه وعدم غيره ، ولزوم السؤال ثانيا فيه الخلاف . وعند أبي الخطاب ، والآمدي : إن ذكر المفتي طريق الاجتهاد : لم يلزمه وإلا لزمه . قلت : وهو الصواب . وإن حدث ما لا قول فيه تكلم فيه حاكم ومجتهد ومفت . وقيل : لا يجوز في أصول الدين . قال في آداب المفتي : ليس له أن يفتي في شيء من مسائل الكلام مفصلا . بل يمنع السائل وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلا . وقدمه في مقنعه . وجزم به في الرعاية الكبرى . وقدم ابن مفلح في أصوله : أن محل الخلاف في الأفضلية ، لا في الجواز وعدمه . وأطلق الخلاف . وقال في خطبة الإرشاد : لا بد من الجواب . وقال في أعلام الموقعين بعد أن حكى الأقوال والحق التفصيل ، وأن ذلك يجوز بل يستحب ، أو يجب عند الحاجة ، وأهلية المفتي والحاكم .

فإن عدم الأمران : لم يجز . وإن وجد أحدهما : احتمل الجواز والمنع ، والجواب عند الحاجة دون عدمها . انتهى . وله تخيير من استفتاه بين قوله وقول مخالفه . روي ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله . وقيل : يأخذ به إن لم يجد غيره ، أو كان أرجح . [ ص: 190 ] وسأله أبو داود : الرجل يسأل عن المسألة ، أدله على إنسان يسأله ؟ قال : إذا كان ، الذي أرشد إليه يتبع ويفتي بالسنة . فقيل له : إنه يريد الاتباع ، وليس كل قوله يصيب . قال : ومن يصيب في كل شيء ؟ وتقدم في آخر الخلع : التنبيه على ذلك . ولا يلزم جواب ما لم يقع ، لكن يستحب إجابته . وقيل : يكره . قلت : وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله . ولا يجب جواب ما لا يحتمله كلام السائل ، ولا ما لا نفع فيه . ومن عدم مفتيا في بلده وغيره : فحكمه حكم ما قبل الشرع . على الصحيح من المذهب . قدمه في الفروع . وقدمه في آداب المفتي : وهو أقيس . وقيل : متى خلت البلدة من مفت : حرمت السكنى فيها . ذكره في آداب المفتي . وله رد الفتيا ، إن كان في البلد من يقوم مقامه ، وإلا لم يجز . ذكره أبو الخطاب ، وابن عقيل ، وغيرهما . وقطع به من بعدهم . وإن كان معروفا عند العامة بفتيا ، وهو جاهل : تعين الجواب على العالم .

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : الأظهر لا يجوز في التي قبلها ، كسؤال عامي عما لم يقع . قال في الفروع : ويتوجه مثله حاكم في البلد غيره ، لا يلزمه الحكم وإلا لزمه . وقال في عيون المسائل ، في شهادة العبد : الحكم يتعين بولايته ، حتى لا يمكنه رد محتكمين إليه . ويمكنه رد من يستشهده . [ ص: 191 ] وإن كان متحملا لشهادة : فنادر أن لا يكون سواه . وفي الحكم لا ينوب البعض عن البعض . ولا يقول لمن ارتفع إليه : امض إلى غيري من الحكام . انتهى . قال في الفروع : ويتوجه تخريج من الوجه في إثم من دعي لشهادة . قالوا : لأنه تعين عليه بدعائه . لكن يلزم عليه إثم من عين في كل فرض كفاية فامتنع . قال : وكلامهم في الحاكم ، ودعوة الوليمة . وصلاة الجنازة : خلافه . انتهى . ومن قوي عنده مذهب غير إمامه : أفتى به وأعلم السائل . ومن أراد كتابة على فتيا ، أو شهادة : لم يجز أن يكبر خطه ، لتصرفه في ملك غيره بلا إذنه ، ولا حاجة كما لو أباحه قميصه فاستعمله فيما يخرجه عن العادة بلا حاجة . ذكره ابن عقيل في الفنون ، وغيره . وكذا قال في عيون المسائل : إذا أراد أن يفتي ، أو يكتب شهادة : لم يجز أن يوسع له الأسطر ، ولا يكثر إذا أمكن الاختصار . لأنه تصرف في ملك غيره بلا إذنه ، ولم تدع الحاجة إليه . واقتصر على ذلك في الفروع .

وقال في أصوله : ويتوجه مع قرينة خلاف . ولا يجوز إطلاقه في الفتيا في اسم مشترك إجماعا ، بل عليه التفصيل . فلو سئل : هل له الأكل بعد طلوع الفجر ؟ فلا بد أن يقول : يجوز بعد الفجر الأول ، لا الثاني . ومسألة أبي حنيفة مع أبي يوسف ، وأبي الطيب مع قوم معلومين . واعلم أنه قد تقدم : أنه لا يفتي إلا مجتهد . على الصحيح من المذهب . وتقدم هناك قول بالجواز . [ ص: 192 ] فيراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها . ويقلد كبار أئمة مذهبه . والعامي يخير في فتواه فقط . فيقول : مذهب فلان كذا . ذكره ابن عقيل وغيره . وكذا قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : الناظر المجرد يكون حاكيا ، لا مفتيا . وقال في آداب عيون المسائل : إن كان الفقيه مجتهدا ، يعرف صحة الدليل : كتب الجواب عن نفسه . وإن كان ممن لا يعرف الدليل ، قال : مذهب الإمام أحمد كذا . مذهب الشافعي كذا . فيكون مخبرا ، لا مفتيا . ويقلد العامي من عرفه عالما عدلا ، أو رآه منتصبا معظما . ولا يقلد من عرفه جاهلا عند العلماء . قال المصنف في الروضة ، وغيرها : يكفيه قول عدل . ومراده : خبير . واعتبر بعض الأصحاب الاستفاضة بكونه عالما ، لا مجرد اعتزائه إلى العلم ، ولو بمنصب تدريس .

قلت : وهو الصواب . وقال ابن عقيل : يجب سؤال أهل الثقة والخير . قال الطوفي في مختصره : يقلد من علمه أو ظنه أهلا بطريق ما ، اتفاقا . فإن جهل عدالته : ففي جواز تقليده وجهان . وأطلقهما في الفروع .

أحدهما : عدم الجواز . وهو الصحيح من المذهب . نصره المصنف في الروضة . وقدمه ابن مفلح في أصوله ، والطوفي في مختصره ، وغيرهما .

والثاني : الجواز . قدمه في آداب المفتي . وتقدم : هل يصح فتيا فاسق ، أو مستور الحال ، أم لا ؟ [ ص: 193 ] ويقلد ميتا . على الصحيح من المذهب . وعليه الأصحاب . وهو كالإجماع في هذه الأعصار . وقيل : لا يقلد ميتا . وهو ضعيف . واختاره في التمهيد ، في أن عثمان رضي الله عنه لم يشترط عليه تقليد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لموتهما . وينبغي للمستفتي أن يحفظ الأدب مع المفتي ويجله . فلا يقول أو يفعل ما جرت عادة العوام به ، كإيماء بيده في وجهه ، وما مذهب إمامك في كذا ؟ وما تحفظ في كذا ؟ أو أفتاني غيرك ، أو فلان بكذا أو كذا . قلت أنا : أو وقع لي ، أو إن كان جوابك موافقا فاكتب . لكن إن علم غرض السائل في شيء : لم يجز أن يكتب بغيره . أو يسأله في حال ضجر ، أو هم ، أو قيامه ، ونحوه . ولا يطالبه بالحجة . ويجوز تقليد المفضول من المجتهدين . على الصحيح من المذهب . قال ابن مفلح في أصوله : قاله أكثر أصحابنا : القاضي ، وأبو الخطاب ، وصاحب الروضة ، وغيرهم . وقدمه هو وغيره . قال في فروعه في " استقبال القبلة " لا يجب عليه تقليد الأوثق على الأصح قال في الرعاية : على الأقيس . وعنه : يجب عليه .

قال ابن عقيل : يلزمه الاجتهاد فيهما . فيقدم الأرجح . ومعناه قول الخرقي كالقبلة في الأعمى والعامي قال ابن مفلح في أصوله : أما لو بان للعامي الأرجح منهما : لزمه تقليده . زاد بعض أصحابنا : في الأظهر . قلت : ظاهر كلام كثير من الأصحاب مخالف لذلك . [ ص: 194 ] وقال في التمهيد : إن رجح دين واحد . قدمه في أحد الوجهين . وفي الآخر : لا . لأن العلماء لا تنكر على العامي تركه . وقال أيضا : في تقديم الأدين على الأعلم وعكسه وجهان . قلت : ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله : تقديم الأدين ، حيث قيل له : من نسأل بعدك ؟ قال : عبد الوهاب الوراق . فإنه صالح ، مثله يوفق للحق . قال في الرعاية : ولا يكفيه من لم تسكن نفسه إليه . وقدم الأعلم على الأورع انتهى . فإن استوى مجتهدان تخير . ذكره أبو الخطاب وغيره من الأصحاب . وقال ابن مفلح في أصوله : وقال بعض الأصحاب : هل يلزم المقلد التمذهب بمذهب ، والأخذ برخصه وعزائمه ؟ فيه وجهان . قلت : قال في الفروع في أثناء " باب شروط من تقبل شهادته " وأما لزوم التمذهب بمذهب ، وامتناع الانتقال إلى غيره في مسألة : ففيه وجهان ، وفاقا لمالك والشافعي رحمهما الله . وعدمه أشهر . انتهى .

قال في أعلام الموقعين : وهو الصواب المقطوع به . وقال في أصوله : عدم اللزوم قول جمهور العلماء ، فيتخير . وقال في الرعاية الكبرى : يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر فلا يقلد غير أهله . وقيل : بلى . وقيل : ضرورة . [ ص: 195 ] فإن التزم فيما يفتى به أو عمل به ، أو ظنه حقا ، أو لم يجد مفتيا آخر : لزم قوله ، وإلا فلا . انتهى . واختار الآمدي منع الانتقال فيما عمل به . وعند بعض الأصحاب : يجتهد في أصح المذاهب فيتبعه . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله : في الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير الرسول عليه الصلاة والسلام في كل أمره ونهيه . وهو خلاف الإجماع . وتوقف أيضا في جوازه . وقال أيضا : إن خالفه لقوة دليل أو زيادة علم أو تقوى : فقد أحسن . ولا يقدح في عدالته بلا نزاع . وقال أيضا : بل يجب في هذه الحال . وأنه نص الإمام أحمد رحمه الله . وهو ظاهر كلام ابن هبيرة . وقال في آداب المفتي : هل للعامي أن يتخير ، ويقلد أي مذهب شاء ، أم لا ؟ فإن كان منتسبا إلى مذهب معين بنينا ذلك على أن العامي : هل له مذهب أم لا ؟ وفيه مذهبان .

أحدهما : لا مذهب له . فله أن يستفتي من شاء من أرباب المذاهب ، سيما إن قلنا : كل مجتهد مصيب .

والوجه الثاني : له مذهب . لأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق . فعليه الوفاء بموجب اعتقاده . فلا يستفتي من يخالف مذهبه . وإن لم يكن انتسب إلى مذهب معين ، انبنى على أن العامي : هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه ؟ وفيه مذهبان .

أحدهما : لا يلزمه ، كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة أن يخص الأمي العامي عالما معينا يقلده ، سيما إن قلنا : كل مجتهد مصيب . [ ص: 196 ] فعلى هذا : هل له أن يستفتي على أي مذهب شاء ، أم يلزمه أن يبحث حتى يعلم علم مثله أسد المذاهب ، وأصحها أصلا ؟ فيه مذهبان .

الثاني : يلزمه ذلك . وهو جار في كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد من الفقهاء وأرباب سائر العلوم . فعلى هذا الوجه : يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين . وهذا أولى بإلحاق الاجتهاد فيه على العامي مما سبق في الاستفتاء . انتهى . ولا يجوز للعامي تتبع الرخص . ذكره ابن عبد البر إجماعا . ويفسق عند الإمام أحمد رحمه الله ، وغيره . وحمله القاضي على متأول أو مقلد . قال ابن مفلح في أصوله : وفيه نظر . قال : وذكر بعض أصحابنا في فسق من أخذ بالرخص روايتين . وإن قوي دليل أو كان عاميا فلا كذا قال . انتهى . وإذا استفتى واحدا أخذ بقوله . ذكره ابن البنا ، وغيره . وقدمه ابن مفلح في أصوله . وقال : والأشهر يلزم بالتزامه . وقيل : وبظنه حقا . وقيل : ويعمل به . وقيل : يلزمه إن ظنه حقا . وإن لم يجد مفتيا آخر لزمه كما لو حكم به حاكم . وقال بعضهم : لا يلزمه مطلقا إلا مع عدم غيره . [ ص: 197 ] ولو سأل مفتيين ، واختلفا عليه : تخير . على الصحيح من المذهب . اختاره القاضي ، وأبو الخطاب ، والمصنف ، وغيرهم . قال أبو الخطاب : هو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله . وذكر ابن البنا وجها : أنه يأخذ بقول الأرجح . واختاره بعض الأصحاب . وقدم في الروضة : أنه يلزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه . قال الطوفي في مختصره : وهو الظاهر . وذكر ابن البنا أيضا : وجها آخر يأخذ بأغلظهما . وقيل : يأخذ بالأخف . وقيل : يسأل مفتيا آخر . وقيل : يأخذ بأرجحهما دليلا . وقال في الفروع في " باب استقبال القبلة " ولو سأل مفتيين فاختلفا . فهل يأخذ بالأرجح ، أو الأخف ، أو الأشد ، أو يخير ؟ فيه أوجه في المذهب . وأطلقهن . وإن سأل فلم تسكن نفسه ، ففي تكراره وجهان . وأطلقهما في الفروع في باب استقبال القبلة . وقال ابن نصر الله في حواشي الفروع : أظهرهما لا يلزم . فهذه جملة صالحة نافعة إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية