الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والمبارأة ) أي الإبراء من الجانبين ( كل حق ) [ ص: 453 ] ثابت وقتهما ( لكل منهما عن الآخر مما يتعلق بذلك النكاح ) حتى لو أبانها ثم نكحها ثانيا بمهر آخر فاختلعت منه على مهرها برئ عن الثاني لا الأول ، ومثله المتعة بزازية . وفيها : اختلعت على أن لا دعوى لكل على صاحبه ثم ادعى أن له كذا من القطن صح لاختصاص البراءة بحقوق النكاح ( إلا نفقة العدة ) وسكناها فلا يسقطان ( إلا إذا نص عليها ) فتسقط النفقة لا السكنى .

[ ص: 454 - 455 ] لأنها حق الشرع إلا إذا أبرأته عن مؤنة السكنى فيصح فتح ، وهو مستغنى عنه بما ذكرنا إذ النفقة والسكنى لم تجبا وقتهما بل بعدهما ( وقيل الطلاق على مال ) مسقط للمهر ( كالخلع والمعتمد لا ) ذكره البزازي ، ولا يبرأ ب أبرأك الله ذكره البهنسي .

التالي السابق


( قوله : والمبارأة ) بفتح الهمزة مفاعلة من البراءة ، وترك الهمزة خطأ ، وهي أن يقول الزوج برئت من نكاحك بكذا قاله صدر الشريعة . وفي الفتح : وهو أن يقول بارأتك على ألف فتقبل نهر .

قلت : وما في الفتح موافق لما في كافي الحاكم ، ثم قال في النهر : قيد المصنف بقوله بارأها لأنه لو قال لها برئت من نكاحك وقع الطلاق وينبغي أن لا يسقط به شيء ا هـ أي لأنه إذا لم يكن بلفظ المفاعلة ولم يذكر له بدلا لم يتوقف على قبولها فيقع به البائن ولا يكون مسقطا بمنزلة قوله خلعتك ، بخلاف ما إذا كان بلفظ المفاعلة ، أو ذكر له بدلا فإنه يتوقف على القبول حتى يكون مسقطا ، وبهذا ظهر أنه لا منافاة بين ما نقله أولا عنصدر الشريعة المصرح فيه بذكر البدل وبين ما ذكره آخرا فافهم .

[ تنبيه ]

ذكر في النهر أول الباب أخذا من عبارة الفتح أن المبارأة من ألفاظ الخلع . قلت : وقدمنا عن الجوهرة التصريح به ، لكن تقدم عن البزازية أن لفظ الخلع من ألفاظ الكناية إلا أن المشايخ قالوا : إنه لغلبة استعماله صار كالصريح ، فلا يفتقر إلى النية وإن المبارأة إذا غلب فيها الاستعمال فهي كذلك ، وتقدم أيضا أن الواقع بالخلع تطليقة بائنة سواء نوى الواحدة ، أو الثنتين ، وإن نوى الثلاث فثلاث ، وإن أخذ عليه جعلا لم يصدق أنه لم يرد به الطلاق ، قال في الكافي للحاكم : والمبارأة بمنزلة الخلع في جميع ذلك ( قوله : أي الإبراء من الجانبين ) أي بأن تقول له : بارئني فيقول لها : بارأتك ، أو يقول لها ذلك وتقول هي قبلت كما في شرح المنظومة ، فالمراد ما يعم الإبراء من أحدهما والقبول من الآخر ط ( قوله : كل حق ) شمل المهر والنفقة المفروضة والماضية والكسوة كذلك وكذا المتعة تسقط بلا ذكر ، ويستثنى ما إذا خالعها على مهرها ، أو بعضه وكان مقبوضا فإنها ترده ولا تبرأ ، ومقتضى إطلاقهم البراءة إلا أن يقال مرادهم ما عدا بدل الخلع ، والمهر بدله فلا تبرأ عنه ، كما لو كان مالا آخر بحر ، وهذا قول الإمام . وعند محمد لا يسقط إلا ما سمياه فيهما أي في الخلع والمبارأة وأبو يوسف مع الإمام في المبارأة ومع محمد في الخلع ملتقى .

مطلب : حاصل مسائل الخلع والمبارأة على أربعة وعشرين وجها

ثم اعلم أن حاصل وجوه المسألة أن البدل إما أن يكون مسكوتا عنه ، أو منفيا أو مثبتا على الزوج ، أو عليها بمهرها كله ، أو بعضه أو مال آخر ، وكل من الستة على وجهين : إما أن يكون المهر مقبوضا ، أو لا ، وكل من الاثني عشر [ ص: 453 ] إما أن يكون قبل الدخول بها ، أو بعده ، فإن كان البدل مسكوتا عنه ففيه روايتان أصحهما براءة كل منهما عن المهر لا غير ، فلا ترد ما قبضت ولا يطالب هو بما بقي وسيأتي تمام الكلام عليه عند قول المصنف وبرئ عن المؤجل لو عليه إلخ وإن كان منفيا كقوله اخلعي نفسك مني بغير شيء ففعلت وقبل الزوج صح بغير شيء لأنه صريح في عدم المال ووقوع البائن فلا يبرأ كل منهما عن حق صاحبه وإن كان معينا على الزوج فسيأتي آخر الباب ; وإن كان بكل المهر ، فإن كان مقبوضا رجع بجميعه وإلا سقط عنه كله مطلقا أي قبل الدخول ، أو بعده وإن خالعها على أن يجعله لولدها ، أو لأجنبي جاز الخلع والمهر للزوج ، وإن ببعضه كالعشر مثلا ، والمهر عشرون ، فإن قبضته رجع بدرهمين لو بعد الدخول وسلم لها الباقي ، وبدرهم فقط إن كان قبله لأنه عشر النصف ، وإن لم يكن مقبوضا سقط الكل مطلقا المسمى بحكم الشرط والباقي بحكم لفظ الخلع ، وإن بمال آخر غير المهر فله المسمى وبرئ كل منهما مطلقا في الأحوال كلها ا هـ ملخصا من البحر والنهر وغرر الأذكار .

لكن المراد بالأخير ما إذا كان مالا معلوما موجودا في الحال وإلا فهو على ستة أوجه قدمناها عن الذخيرة ( قوله : ثابت وقتهما ) أي وقت الخلع والمبارأة احترز به عن حق يثبت بعدهما كنفقة العدة والسكنى كما يشير إليه الشارح ( قوله : مما يتعلق ) أي من الحق الذي يتعلق بذلك النكاح الذي وقع الخلع منه ( قوله : لا الأول ) لأنه ليس من حق ذلك النكاح بل هو حق النكاح الأول ( قوله : ومثله المتعة ) الأولى " ومنه " : أي من الحق الذي يسقط . قال في البحر : وأما المتعة فقال في البزازية : خالعها قبل الدخول وكان لم يسم مهرا تسقط المتعة بلا ذكر ا هـ ويحتمل أن مراده أن المتعة مثل المهر فتسقط إذا كانت متعة ذلك النكاح لا متعة نكاح قبله كما حمله ح ( قوله : صح إلخ ) قال في البحر : ومقتضى الإبراء عدم الصحة وكأنه لما وقع في ضمن الخلع تخصص بما هو من حقوق النكاح ( قوله : إلا إذا نص عليها ) أي على النفقة في الخلع ، أما لو لم تسقطها حتى انخلعت ثم أسقطتها لا تسقط لإسقاطها حينئذ قصدا لما لم يجب فإنها إنما تجب شيئا فشيئا ، بخلاف ذلك الإسقاط الضمني فإنه يسقط باعتبار ما تستحقه وقت الخلع ، والباقي سقط تبعا في ضمن الخلع فتح . وفي الذخيرة من النفقة :قالت لزوجها أنت بريء من نفقتي أبدا ما دمت امرأتك لا يصح لأن صحة الإبراء تعتمد الوجوب أو قيام سبب الوجوب ولم يوجد هنا لأن سبب وجوبها في المستقبل هو الاحتباس في المستقبل وهو غير موجود في الحال ثم قال وإذا أبرأته عن النفقة قبل أن تصير دينا في ذمته لا يصح بالاتفاق ، وإذا شرطت في الخلع يصح لأنه إبراء بعوض فيكون استيفاء لما وقعت البراءة عنه لأن العوض قام مقامه والاستيفاء قبل الوجوب يصح بالاتفاق . ا هـ .

وفي القنية : وإن لم تكن النفقة واجبة ولكن سببها قائم فصح الإبراء عنها ا هـ أي فإن الخلع سبب لوجوب نفقة العدة وهذا معنى قوله في البدائع فأما نفقة العدة فإنها تجب عند العدة فكان الخلع على النفقة مانعا من وجوبها أي بخلاف إبرائها عن النفقة قبل الخلع ، أو بعده فإنه لا يصح . وفي البزازية : وقيل يصح وهو الأشبه .

قلت : لكن المذكور في عامة الكتب أنه لا يصح ، ولذا جزم به في الفتح وشرح الطحاوي والبدائع ، وكذا في الخانية وغيرها بل علمت أنه بالاتفاق .

[ ص: 454 ] وفي الولوالجية : اختلعت منه بكل حق هو لها عليه فلها النفقة ما دامت في العدة لأنها لم تكن حقا لها وقت الخلع . وفي البحر عن البزازية اختلعت بتطليقة بائنة على كل حق يجب للنساء على الرجال قبل الخلع وبعده ولم تذكر الصداق ونفقة العدة تثبت البراءة عنهما لأن المهر ثابت قبل الخلع والنفقة بعده ا هـ .

مطلب : حادثة الفتوى : أبرأته عن مهرها وعن أعيان معلومة

فقال : إن كانت براءتك صادقة فأنت طالقة [ تنبيه ] :

وقعت حادثة سئلت عنها في امرأة طلبت من زوجها الطلاق على أن تبرئه من مهرها ومن أعيان معلومة فرضي وأبرأته من ذلك فقال : إن كانت براءتك صادقة فأنت طالقة . فأجبت بأنها لا تطلق لقولهم إن البراءة عن الأعيان لا تصح ، ومراد الزوج التعليق على صحة البراءة عن الكل ليسلم له جميع العوض ، هكذا ظهر لي . ثم رأيت بعد جوابي هذا في فتاوى الكازروني نقلا عن فتاوى العلامة عبد الرحمن المرشدي أنه سأل عما يقع كثيرا من قول المرأة : أبرأتك من المهر ونفقة العدة ، وقول الزوج : طلاقك بصحة براءتك فأجاب بعدم الوقوع قال : ووافقني بعض حنفية العصر ، وتوقف بعضهم محتجا بأن شيخنا جار الله بن ظهيرة كان يفتي بالوقوع لقولهم إن نفقة العدة تسقط بالتسمية فقلت هذا بمعزل عما نحن فيه لأن النفقة تجب بالطلاق يوما فيوما والإبراء عن المعدوم باطل والمعلق به كذلك لانتفاء المعلق عليه بانتفاء جزئه . وأما المذكور في باب الخلع فالمراد به المبارأة التي هي نوع من الخلع الموقوف على قبولها في المجلس ، فإذا كان على المهر ونفقة العدة سقطت النفقة تبعا له ، أما هنا فهو تعليق محض فلا يقع ببطلان بعض المعلق عليه ا هـ ملخصا . ثم رأيت البيري في شرح الأشباه صوب ما أفتى به ابن ظهيرة ورد على المرشدي مستندا لما مر من التصريح بسقوط النفقة بالشرط .

أقول : والصواب أنه إذا لم يكن الإبراء مبنيا على طلب الطلاق لم تسقط النفقة وإن طلقها عقبه لأنه في حال قيام النكاح ، وإن كان مبنيا عليه سقطت وإن كان حال قيام النكاح لأنه حينئذ يصير مقابلا بعوض . ففي الذخيرة والخانية وغيرهما : طلبت منه طلاقها فقال أبرئيني عن كل حق لك حتى أطلقك فقالت : أبرأتك عن كل حق للنساء على الأزواج فقال الزوج في فوره : طلقتك واحدة وهي مدخول بها تقع بائنة لأنه طلاق بعوض وهو الإبراء دلالة . ا هـ . وأفاد في الفتح أن النفقة لا تسقط بذلك لانصراف الحق إلى القائم لها إذ ذاك ا هـ نعم قدمنا آنفا ، أنها لو أبرأته عن كل حق قبل الخلع وبعده تسقط ، فكذا إذا طلب إبراءها له عن المهر والنفقة صريحا ليطلقها فأبرأته وطلقها فورا يصح الإبراء لأنه إبراء بعوض وهو ملكها نفسها فكأنها استوفت النفقة باستيفاء بدلها والاستيفاء قبل الوجوب يصح ، كما لو دفع لها نفقة شهر يصح ، وعلى هذا يكون إبراء بشرط فإذا لم يطلقها لم يبرأ ، فقد صرح في الخانية بأنها لو أبرأته عما لها عليه على أن يطلقها فإن طلقها جازت البراءة وإلا فلا ، بخلاف ما لو أبرأته على أن لا يتزوج عليها فتصح البراءة دون الشرط لأن الأول يصح فيه الجعل دون الثاني فيكون الشرط فيه باطلا . وفي الحاوي الزاهدي : ولو أبرأته ليطلقها فقام ثم طلقها يبرأ إن لم ينقطع حكم المجلس وإلا فلا . ا هـ .

إذا علمت ذلك فقد ظهر لك أن صحة هذه البراءة موقوفة على الطلاق فورا أي في المجلس ، فإذا قال لها طلاقك بصحة براءتك يكون قد علق الطلاق على صحة البراءة فيقتضي تحقق صحتها قبله كما هو مقتضى الشرط ولا صحة لها إلا به فلم يوجد المعلق عليه فلا يقع الطلاق ، بخلاف ما لو نجز الطلاق فإنه يقع وتصح به البراءة ، فقد ظهر أن الحق [ ص: 455 ] ما قاله المرشدي ولا ينافيه تصريحهم بسقوط النفقة بالشرط ، لما علمت من أن سقوطها موقوف على الطلاق أو الخلع فلا توجد البراءة قبله وإنما توجد بطلاق أو خلع منجز لا معلق على صحتها ، هذا ما ظهر لي في هذا المحل ، وهذه المسألة كثيرة الوقوع ، فاغتنم تحريرها والله سبحانه وتعالى أعلم ( قوله : لأنها حق الشرع ) لأن سكناها في غير بيت الطلاق معصية بحر عن الفتح ( قوله : إلا إذا أبرأته عن مؤنة السكنى ) بأن كانت ساكنة في بيت نفسها ، أو تعطي الأجرة من مالها فيصح التزامها ذلك فتح ، لكن مقتضى هذا أنه لا بد من التصريح بمؤنة السكنى مع أنه ذكر في الفتح وغيره في فصل الإحداد : لو اختلعت على أن لا سكنى لها فإن مؤنة السكنى تسقط عن الزوج ويلزمها أن تكتري بيت الزوج ، ولا يحل لها أن تخرج منه ا هـ تأمل ( قوله : وهو ) أي قول المصنف إلا نفقة العدة إلخ مستغنى عنه بما قدره الشارح من قوله " ثابت وقتهما " لأن قوله لكل منهما متعلق بذلك المحذوف على أنه صفة لحق فإذا كان تقدير كلامه ذلك استغنى به عن الاستثناء المذكور فكان الأولى تركه فافهم ( قوله : مسقط للمهر ) قيد به لما في البحر أنه صرح في شرح الوقاية والخلاصة والبزازية والجوهرة بأن النفقة المقضي بها تسقط بطلاق ، وأطلقوه فشمل الطلاق بمال وغيره ا هـ وفيه كلام سيأتي في النفقة ( قوله : ذكره البزازي ) بلفظ " وعليه الفتوى " ، ومثله في الفصول وغيرها . وفي البحر أنه ظاهر الرواية وصححه الشارحون وقاضي خان . ا هـ .

قلت : وحاصل عبارة قاضي خان أن الطلاق بمال حكمه حكم الخلع عندهما أي إنه غير مسقط للمهر ، وعنده في رواية كقولهما ، وهو الصحيح ، وفي رواية كالخلع عنده أي في أنه مسقط ا هـ وقدمنا ذكر الخلاف في الخلع عن الملتقى ، وبهذا تعلم ما في عبارة النهر من الإبهام الذي أوقع غيره في الغلط فافهم .

مطلب في البراءة بقولها أبرأك الله

( قوله : ذكره البهنسي ) وتبعه تلميذه الباقاني في شرحه على الملتقى ، وأفتى به الخير الرملي ، لكن نقل ط عن العلامة المقدسي أنه أفتى بصحة البراءة به للتعارف .

قلت : وبه أفتى قارئ الهداية وابن الشلبي معللا بأن العرف على كونه إبراء قال : وكتب مثله الناصر اللقاني وشيخ الإسلام الحنبلي ا هـ وكذا ذكره في المنظومة المحبية ، وأفتى به في الحامدية ، وأيده السائحاني بما في البزازية . قال : طلقك الله ، أو لأمته : أعتقك الله يقع الطلاق والعتاق زاد في الجوهرة نوى أو لم ينو .




الخدمات العلمية