الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تستحق ) الحاضنة [ ص: 561 ] ( أجرة الحضانة إذا لم تكن منكوحة ولا معتدة لأبيه ) وهي غير أجرة إرضاعه ونفقته كما في البحر عن السراجية ، خلافا لما نقله المصنف عن جواهر الفتاوى .

وفي شرح النقاية للباقاني عن البحر المحيط : سئل أبو حفص عمن لها إمساك الولد وليس لها مسكن مع الولد ؟ فقال : على الأب سكناهما جميعا . [ ص: 562 ] وقال نجم الأئمة : المختار أنه عليه السكنى في الحضانة ، وكذا إن احتاج الصغير إلى خادم يلزم الأب به . وفي كتب الشافعية : مؤنة الحضانة في مال المحضون لو له وإلا فعلى من تلزمه نفقته . قال شيخنا : وقواعدنا تقتضيه فيفتى به ثم حرر أن الحضانة كالرضاع ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


( قوله : إذا لم تكن منكوحة ولا معتدة لأبيه ) هذا قيد فيما إذا كانت الحاضنة أما فلو كانت غيرها فالظاهر استحقاقها أجرة الحضانة بالأولى ، وقوله : لأبيه احتراز عما لو كانت في نكاح أو عدة رجل غير الأب فإنها تستحق الأجرة عليها ، لكن إذا كان الناكح محرما للصغير وإلا فلا حضانة لها كما مر هذا .

وقال المصنف في المنح : وعندي أنه لا حاجة إلى قوله إذا لم تكن منكوحة ولا معتدة لأن الظاهر وجوب أجرة الحضانة لها إذا كانت أهلا ، وما ذكر إنما هو شرط لوجوب أجر الرضاع لها لأنها إنما تستأجر له إذا لم تكن منكوحة ، أو معتدة . ا هـ . ونازعه الخير الرملي في حاشيته على المنح بأن امتناع وجوب أجر الرضاع للمنكوحة ومعتدة الرجعي لوجوبه عليها ديانة وذلك موجود في الحضانة ، بل دعوى الأولوية فيها غير بعيد إلى آخر ما قاله .

قلت : على أنك قد علمت مما قدمناه آنفا أن الأجرة تستحق مع وجود الجبر فلا تنافي الوجوب ، ولعل وجهه أن نفقة الصغير لها وجبت على أبيه لو غنيا وإلا فمن مال الصغير كان من جملتها الإنفاق على حاضنته التي حبست نفسها لأجله عن التزوج ، ومثلها أجرة إرضاعه ، فلم تكن أجرة خالصة من كل وجه حتى ينافيها الوجوب بل لها شبه الأجرة وشبه النفقة ، فإذا كانت منكوحة ، أو معتدة لأبيه لم تستحق أجرة لا على الحضانة ولا على الإرضاع لوجوبهما عليها ديانة ، النفقة ثابتة لها بدونهما ، بخلاف ما بعد انقضاء العدة فإنها تستحقها عملا بشبه الأجرة ، وعن هذا كان الأوجه عدم الفرق بين معتدة الرجعي والبائن كما هو مقتضى إطلاق الكنز . وظاهر الهداية ترجيحه فإنه ذكر في الرضاع أن في معتدة البائن روايتين ، وآخر دليل عدم الجواز لكن ذكر في الجوهرة وغيرها تصحيح الجواز ، ويأتي تمامه في الباب الآتي . ( قوله : وهي غير أجرة إرضاعه ونفقته ) قال في البحر : فعلى هذا يجب على الأب ثلاثة : أجرة الرضاع ، وأجرة الحضانة ، ونفقة الولد ا هـ ومثله في الشرنبلالية . ( قوله : عن السراجية ) المراد بها هنا فتاوى سراج الدين قارئ الهداية فإنه في الباب الآتي عزا ذلك إليها صريحا ، فلا محل لترديد المصنف لأنه يحتمل أنه أراد بها الفتاوى السراجية المشهورة مع قوله لكني لم أقف على ذلك فيها فافهم ، لكن قوله إذا لم تكن منكوحة ولا معتدة لأبيه نقله في البحر عن السراجية ولم أره فيها ، فإن عبارة فتاوى قارئ الهداية : سئل هل تستحق المطلقة أجرة بسبب حضانة ولدها خاصة من غير إرضاع له ؟ فأجاب : نعم تستحق أجرة على الحضانة ، وكذا إذا احتاج إلى خادم يلزم به ا هـ وأفتى بذلك أيضا صاحب البحر في فتاواه ، وكذا في الخيرية ، ومشى عليه في النهر . وقدمنا أنه مفهوم من قولهم في مسألة العمة والخال إن الأب معسر . ( قوله : خلافا لما نقله المصنف ) حيث قال بعد نقل كلام قارئ الهداية : لكن يشكل على هذا الإطلاق ما في جواهر الفتاوى قال : سئل قاضي القضاة فخر الدين قاضي خان عن المبتوتة هل لها أجرة الحضانة بعد فطام الولد ؟ فقال لا ، والله تعالى أعلم . ا هـ .

قلت : يمكن حمل المبتوتة على المعتدة من طلاق بات فهو مبني على إحدى الروايتين في البائن كما قدمناه آنفا ، لكن التقييد بما بعد فطام الولد لم يظهر لي وجهه ، ولعله لكونه الواقع في حادثة الفتوى . [ ص: 562 ] مطلب في لزوم أجرة مسكن الحضانة

. ( قوله : وقال نجم الأئمة : المختار أن عليه السكنى ) في نفقات البحر عن التفاريق : لا تجب في الحضانة أجرة المسكن . وقال آخرون : تجب إن كان للصبي مال وإلا فعلى من تجب عليه نفقته . ا هـ . وفي النهر : وينبغي ترجيح عدم الوجوب لأن وجوب الأجر لا يستلزم وجوب المسكن بخلاف النفقة . ا هـ .

قلت : صاحب النهر ليس من أهل الترجيح ، فلا يعارض ترجيحه ترجيح نجم الأئمة ولا سيما مع ضعف تعليله ، فإن القول بوجوب أجرة المسكن ليس مبنيا على وجوب الأجر على الحضانة بل على وجوب نفقة الولد ; فقد تكون الحاضنة لا مسكن لها أصلا بل تسكن عند غيرها فكيف يلزمها أجرة مسكن لتحضن فيه الولد ، بل الوجه لزومه على من تلزمه نفقته ، فإن المسكن من النفقة . ونقل الخير الرملي عن المصنف أنه اختلف في لزومه والأظهر اللزوم كما في بعض المعتبرات . قال الرملي : وهذا يعلم من قولهم : إذا احتاج الصغير لخادم يلزم الأب ، فإن احتياجه إلى المسكن مقرر ا هـ .

قلت : واعتمده ابن الشحنة مخالفا لما اختاره ابن وهبان وشيخه الطرسوسي .

والحاصل أن الأوجه لزومه لما قلنا ، لكن هذا إنما يظهر لو لم يكن لها مسكن ، أما لو كان لها مسكن يمكنها أن تحضن فيه الولد ويسكن تبعا لها فلا لعدم احتياجه إليه ، فينبغي أن يكون ذلك توفيقا بين القولين ، ويشير إليه قول أبي حفص وليس لها مسكن . ولا يخفى أن هذا هو الأرفق للجانبين فليكن عليه العمل ، والله الموفق فافهم . ( قوله : وكذا إلخ ) قدمناه عن فتاوى قارئ الهداية . ( قوله : قال شيخنا ) يعني الخير الرملي في حواشيه على البحر فافهم . ( قوله : وقواعدنا تقتضيه ) .

قلت : ما قدمناه قريبا عن خط شيخ مشايخنا السائحاني صريح في ذلك ، فقد وافق بحثه المنقول . ( قوله : ثم حرر ) أي الخير الرملي أن الحضانة كالرضاع أي في أنها لا أجر للأم فيها لو منكوحة ، أو معتدة ، وإلا فلها الأجرة من مال الصغير إن كان له مال ، وإلا فمن مال أبيه ، أو من تلزمه نفقته ، هذا خلاصة ما حط عليه رأيه بعد كلام طويل ، وقد علمت تأييده بما نقلناه عن خط السائحاني .

قلت : وهذا كله حيث لم يوجد متبرع بالحضانة ، فإن وجد ، فإما أن يكون أجنبيا عن الصغير ، أو لا . وعلى كل فإما أن يكون الأب معسرا أو لا ، وعلى كل فإما أن يكون للصغير مال ، أو لا ، فإن كان أجنبيا يدفع للأهل للحضانة بأجرة المثل ولو من مال الصغير ; وإن كان المتبرع غير أجنبي ، فإن كان الأب معسرا والصغير له مال ، أو لا يقال للأم : إما أن تمسكيه مجانا ، أو تدفعيه للعمة - مثلا - المتبرعة صونا لماله لو له مال ، وإن كان الأب موسرا والصغير له مال فكذلك ، لأن الأجرة حينئذ على الصغير ، وإن كان الأب موسرا ولا مال للصغير فالأم مقدمة وإن طلبت الأجرة نظرا للصغير بلا ضرر له في ماله ، هذا حاصل ما تحرر للعبد الضعيف بناء على أن الحضانة كالرضاع ، وتمام ذلك في رسالتنا " الإبانة عن أخذ الأجرة على الحضانة " .




الخدمات العلمية