الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واكتفى ) المفترض ( فيما بعد الأوليين بالفاتحة ) فإنها سنة على الظاهر ، ولو زاد لا بأس به ( وهو مخير بين قراءة ) الفاتحة وصحح العيني وجوبها ( وتسبيح ثلاثا ) وسكوت قدرها ، وفي النهاية قدر تسبيحة ، فلا يكون مسيئا بالسكوت ( على المذهب ) لثبوت التخيير [ ص: 512 ] عن علي وابن مسعود وهو الصارف للمواظبة عن الوجوب ( ويفعل في القعود الثاني ) الافتراش ( كالأول وتشهد ) أيضا ( وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ) وصح زيادة في العالمين [ ص: 513 ] وتكرار " إنك حميد مجيد " وعدم كراهة الترحم ولو ابتداء . وندب السيادة لأن زيادة الإخبار بالواقع عين سلوك الأدب فهو أفضل من تركه ، ذكره الرملي الشافعي وغيره ; [ ص: 514 ] وما نقل : لا تسودوني في الصلاة فكذب ، وقولهم لا تسيدوني بالياء لحن أيضا والصواب بالواو ; وخص إبراهيم لسلامه علينا ، أو لأنه سمانا المسلمين ، أو لأن المطلوب صلاة يتخذه بها خليلا ، وعلى الأخير فالتشبيه ظاهر أو راجع لآل محمد ، أو المشبه به قد يكون أدنى مثل - { مثل نوره كمشكاة }

التالي السابق


( قوله واكتفى المفترض ) قيد به لأنه في النفل والواجب تجب الفاتحة والسورة أو نحوها ( قوله على الظاهر ) أي ظاهر الرواية . وفيه كلام يأتي قريبا ( قوله ولو زاد لا بأس ) أي لو ضم إليها سورة لا بأس به لأن القراءة في الأخريين مشروعة من غير تقدير والاقتصار على الفاتحة مسنون لا واجب فكان الضم خلاف الأولى وذلك لا ينافي المشروعية ، والإباحة بمعنى عدم الإثم في الفعل والترك كما قدمناه في أوائل بحث الواجبات ، وبه اندفع ما أورده في النهر هنا على البحر من دعوى المنافاة ( قوله وصحح العيني وجوبها ) هذا مقابل ظاهر الرواية ، وهو رواية الحسن عن الإمام وصححها ابن الهمام أيضا من حيث الدليل .

ومشى عليها في المنية فأوجب سجود السهو بترك قراءتها ساهيا والإساءة بتركها عمدا ، لكن الأصح عدمه لتعارض الأخبار كما في المجتبى واعتمده في الحلية ( قوله وسكوت قدرها ) أي قدر ثلاث تسبيحات ( قوله وفي النهاية قدر تسبيحة ) قال شيخنا : وهو أليق بالأصول حلية : أي لأن ركن القيام يحصل بها لما مر أن الركنية تتعلق بالأدنى ( قوله فلا يكون مسيئا بالسكوت على المذهب إلخ ) اعلم أنهم اتفقوا في ظاهر الرواية على أن قراءة الفاتحة أفضل ، وعلى أنه لو اقتصر على التسبيح لا يكون مسيئا . وأما لو سكت فصرح في المحيط بالإساءة وقال لأن القراءة فيهما شرعت على سبيل الذكر والثناء ، ولهذا تعينت الفاتحة للقراءة لأن كلها ذكر وثناء ، وإن سكت عمدا أساء لترك السنة ، ولو ساهيا لا سهو عليه ; وصرح غيره بالتخيير بين الثلاثة في ظاهر الرواية وعدم الإساءة بالسكوت . قال في البدائع والصحيح جواب ظاهر الرواية لما روينا عن علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقولان المصلي بالخيار في الأخريين ، إن شاء قرأ ، وإن شاء سكت ، وإن شاء سبح ، وهذا باب لا يدرك بالقياس ، فالمروي عنهما كالمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ .

وفي الخانية : وعليه الاعتماد وفي الذخيرة هو الصحيح من الرواية . ورجح ذلك في الحلية بما لا يزيد عليه فارجع إليه . [ ص: 512 ] والحاصل أن عند صاحب المحيط يكره السكوت لترك سنة القراءة ، فالقراءة عنده سنة ، لكن لما شرعت على وجه الذكر حصلت السنة بالتسبيح ، فيخير بينهما وهو ما مشى عليه المصنف ، فالقراءة أفضل بالنظر إلى التسبيح ، وسنة بالنظر إلى السكوت ، حتى لو سبح ترك الأفضل ; ولو سكت أساء لترك السنة ، وما يقوم مقامها وأما عند غير صاحب المحيط فلا يكره السكوت لثبوت التخيير بين الثلاثة ، فصارت القراءة أفضل بالنظر إلى التسبيح . وإلى السكوت ، فقد اتفق الكل على أفضلية القراءة ، وإنما اختلفوا في سنيتها بناء على كراهة السكوت وعدمها وقد علمت أن الصحيح المعتمد التخيير بين الثلاثة ، وبه تعلم ما في عبارة الشارح حيث قال أولا : إن الفاتحة سنة على الظاهر ، فإنه مبني على ما في المحيط ; ثم مشى على خلافه حيث اعتمد التخيير الثلاثة ، فزاد على المصنف السكوت وقال إنه لا يكون مسيئا به ، فاغتنم هذا التحرير الفريد ، وما نقلته عن البدائع والذخيرة والخانية رأيته فيها وفي غيرها ، وذكرت نصوصها فيما علقته على البحر ، فلا تعتمد على ما نقل عنها مخالفا لذلك فافهم . ثم اعلم أن اتفاقهم على أفضلية الفاتحة لا ينافي التخيير إذ لا مانع من التخيير بين الفاضل والأفضل كالحلق مع التقصير .

[ تنبيه ] ظاهر كلام المتون وغيرها أن الفاتحة مقروءة على وجه القرآن . وفي القهستاني قال علماؤنا إنها تقرأ بنية الثناء لا القراءة . ا هـ . ونقل في المجتبى عن شمس الأئمة أنه الصحيح لكن في النهاية قال : وعن أبي يوسف يسبح : ولا يسكت ، وإذا قرأ الفاتحة فعلى وجه الثناء لا القراءة ، وبه أخذ بعض المتأخرين . ا هـ . وفي الحلية : لكن قدمنا أن الصواب أن الفاتحة لا تخرج عن القرآنية بالنية ( قوله وهو الصارف إلخ ) حاصله أن حديث الصحيحين عن أبي قتادة : { أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ، وفي الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب } يفيد المواظبة على ذلك ، وهي بلا ترك دليل الوجوب أن التخيير المروي صارف لها عن الوجوب لأن له حكم المرفوع كما قدمناه ، وبهذا يرد على العيني وابن الهمام ( قوله الافتراش ) إنما خصه بالذكر للإشارة إلى نفي القول بالتورك كما هو مذهب الشافعي ، وإلا فأحكام القعود لا تختص بذلك كما مر فافهم .

( قوله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ) قال في شرح المنية : والمختار في صفتها ما في الكفاية والقنية والمجتبى قال : سئل محمد عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وهي الموافقة لما في الصحيحين وغيرهما ( قوله وصح زيادة في العالمين ) أي مرة واحدة بعد قوله كما باركت إلخ . وأما بعد قوله كما صليت فلم تثبت . قال في الحلية وفي إفصاح ابن هبيرة حكاية الصلاة المذكورة عن محمد بزيادة في العالمين بعد قوله كما باركت ، وهو في رواية مالك ومسلم وأبي داود وغيرهم . وفي نسخة من الإفصاح زيادة في العالمين بعد كما صليت أيضا ، وهي مذكورة في بعض أحاديث هذا الباب ، لكن لا يحضرني الآن من رواها من الصحابة ولا من خرجها من الحفاظ ولا ثبوتها في نفس الأمر ا هـ [ ص: 513 ] وأشار الشارح إلى هذا حيث عبر بالزيادة لا بالتكرار فافهم ( قوله وتكرار إنك حميد مجيد ) استدراك على ما نقله الزيلعي وغيره عن محمد في كيفية الصلاة المذكورة من الاقتصار على إنك حميد مجيد مرة في آخرها فقط مع أنه في الذخيرة نقلها عن محمد مكررة وتقدم أنها في الصحيحين كذلك . مطلب في جواز الترحم على النبي ابتداء

( قوله وعدم كراهة الترحم ) عطف على فاعل صح ; ومفاده أنه لم يصح ندبه لعدم ثبوته في صلاة التشهد ، ولذا قال في شرح المنية : والإتيان بما في الأحاديث الصحيحة أولى . وقال في الفيض : فالأولى تركه احتياطا ، وفي شرح المنهاج للرملي قال النووي في الأذكار : وزيادة وارحم محمدا وآل محمد كما رحمت على إبراهيم بدعة . واعترض بورودها في عدة أحاديث صحح الحاكم بعضها " وترحم على محمد " ورده بعض محققي أهل الحديث بأن ما وقع للحاكم وهم ، وبأنها وإن كانت ضعيفة لكنها شديدة الضعف فلا يعمل بها ، ويؤيده قول أبي زرعة وهو من أئمة الفن بعد أن ساق تلك الأحاديث وبين ضعفها ; ولعل المنع أرجح لضعف الأحاديث في ذلك : أي لشدة ضعفها .

وبما تقرر علم أن سبب الإنكار كون الدعاء بالرحمة لم يثبت هنا من طريق يعتد به ، والباب باب اتباع ، لا ما قاله ابن عبد البر وغيره من أنه لا يدعى له صلى الله عليه وسلم بلفظ الرحمة ، فإن أراد النافي امتناع ذلك مطلقا فالأحاديث الصحيحة صريحة في رده فقد صح في سائر روايات التشهد " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وصح أنه صلى الله عليه وسلم أقر من قال " ارحمني وارحم محمدا " ولم ينكر عليه سوى قوله " ولا ترحم معنا أحدا " وحصولها لا يمنع طلبها له كالصلاة والوسيلة والمقام المحمود لما فيه من عود الفائدة له صلى الله عليه وسلم بزيادة ترقيه التي لا نهاية لها والداعي بزيادة ثوابه على ذلك . ا هـ .

والحاصل أن الترحم بعد التشهد لم يثبت وإن كان قد ثبت في غيره ، فكان جائزا في نفسه ( قوله ولو ابتداء ) أي من غير تبعيته لصلاة أو سلام . وذكر في البحر والحلية أن الكراهة في الابتداء متفق عليه . وتعقبه في النهر بأن عبارة الزيلعي في آخر الكتاب تقتضي أن الخلاف في الكل ، فإنه قال اختلفوا في الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : اللهم ارحم محمدا . قال بعضهم : لا يجوز لأنه ليس فيه ما يدل على التعظيم كالصلاة . وقال بعضهم : يجوز لأنه عليه الصلاة والسلام كان من أشوق العباد إلى مزيد رحمه الله تعالى واختاره السرخسي لوروده في الأثر ولا عتب على من اتبع . وقال أبو جعفر : وأنا أقول وارحم محمدا للتوارث في بلاد المسلمين . واستدل بعضهم على ذلك بتفسيرهم الصلاة بالرحمة ; واللفظان إذا استويا في الدلالة صح قيام أحدهما مقام الآخر ، ولذا أقر عليه الصلاة والسلام الأعرابي على قوله " اللهم ارحمنيومحمدا " . ا هـ . فافهم ( قوله ذكره الرملي الشافعي ) أي في شرحه على منهاج النووي . ونصه : والأفضل الإتيان بلفظ السيادة كما قاله ابن ظهيرية ، وصرح به جمع ، وبه أفتى الشارح لأن فيه الإتيان بما أمرنا به ، وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدب ، فهو أفضل من تركه وإن تردد في أفضليته الإسنوي . وأما حديث : لا تسيدوني في الصلاة فباطل لا أصل له ، كما قاله بعض متأخري الحفاظ ، وقول الطوسي إنها مبطلة غلط . ا هـ . [ ص: 514 ] واعترض بأن هذا مخالف لمذهبنا لما مر من قول الإمام من أنه لو زاد في تشهده أو نقص فيه كان مكروها . قلت : فيه نظر ; فإن الصلاة زائدة على التشهد ليست منه ، نعم ينبغي على هذا عدم ذكرها في " وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " وأنه يأتي بها مع إبراهيم عليه السلام ( قوله لحن أيضا ) أي مع كونه كذبا ( قوله والصواب بالواو ) لأنه واوي العين من ساد يسود ، قال الشاعر :

وما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

مطلب في الكلام على التشبيه في كما صليت على إبراهيم ( قوله وخص إبراهيم إلخ ) جواب عن سؤال تقديره لم خص التشبيه بإبراهيم دون غيره من الرسل الكرام عليه الصلاة والسلام ؟ فأجاب بثلاثة أجوبة :

الأول أنه سلم علينا ليلة المعراج حيث قال { أبلغ أمتك مني السلام } والثاني أنه سمانا المسلمين كما أخبرنا عنه تعالى بقوله { - هو سماكم المسلمين من قبل } - أي بقوله - { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } - والعرب من ذريته وذرية إسماعيل عليهما السلام ، فقصدنا إظهار فضله مجازاة على هذين الفعلين منه .

والثالث أن المطلوب صلاة يتخذ الله تعالى بها نبينا صلى الله عليه وسلم خليلا كما اتخذ إبراهيم عليه السلام خليلا ، وقد استجاب الله دعاء عباده ، فاتخذه الله تعالى خليلا أيضا ; ففي حديث الصحيحين { ولكن صاحبكم خليل الرحمن } وأجيب بأجوبة أخر : منها أن ذلك لأبوته ، والتشبيه في الفضائل بالآباء مرغوب فيه ولرفعة شأنه في الرسل ، وكونه أفضل بقية الأنبياء على الراجح ولموافقتنا إياه في معالم الملة المشار إليه بقوله تعالى { - ملة أبيكم إبراهيم - } ولدوام ذكره الجميل المشار إليه بقوله تعالى { - واجعل لي لسان صدق في الآخرين - } وللأمر بالاقتداء به في قوله تعالى { - أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا - } ( قوله وعلى الأخير إلخ ) أي الوجه الثالث ، وهذا أيضا جواب عن السؤال المشهور الذي يورده العلماء قديما وحديثا . وهو : أن القاعدة أن المشبه به في الغالب يكون أعلى من المشبه في وجه الشبه مع أن القدر الحاصل من الصلاة والبركة لنبينا صلى الله عليه وسلم ولآله أعلى من الحاصل لإبراهيم عليه السلام وآله بدلالة رواية النسائي { من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشر صلوات ، وحط عنه عشر سيئات ، ورفعت له عشر درجات } .

ولم يرد في حق إبراهيم أو غيره مثل ذلك . والجواب أن المراد صلاة خاصة يكون بها نبينا صلى الله عليه وسلم خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، أو التشبيه راجع لقولنا { وعلى آل محمد } أو أن هذا من غير الغالب فإن المشبه به قد يكون مساويا للمشبه أو أدنى منه لكنه يكون أوضح لكونه حسيا مشاهدا ، أو لكونه مشهورا في وجه الشبه ، فالأول نحو { - مثل نوره كمشكاة - } وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى ؟ والثاني كما هنا ، فإن تعظيم إبراهيم وآله بالصلاة عليهم واضح بين أهل الملل ، فحسن التشبيه لذلك ، ويؤيده ختم هذا الطلب بقوله { : في العالمين } ، وتمامه في الحلية . وأجيب بأجوبة أخر : من أحسنها أن التشبيه في أصل الصلاة لا في القدر كما في [ ص: 515 ] قوله تعالى { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح } و { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } { وأحسن كما أحسن الله إليك - } وفائدة التشبيه تأكيد الطلب : أي كما صليت على إبراهيم فصل على محمد الذي هو أفضل منه ، وقيل الكاف للتعليل




الخدمات العلمية