الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4574 349 - حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه ، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، [ ص: 198 ] ثم قرأت لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك الآية ، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للسورة ظاهرة ، ويحيى هذا إما ابن موسى الختي بالخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة من فوق ، وإما ابن جعفر البلخي البيكندي ، وعامر هو الشعبي .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري في التفسير ، وفي التوحيد مطلقا عن محمد بن يوسف ، وفي التوحيد أيضا ، وقال محمد إلى آخره ، وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن عبد الله وغيره ، وأخرجه الترمذي في التفسير عن أحمد بن منيع وغيره ، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن المثنى وغيره .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يا أمتاه " بزيادة الألف والهاء ، وقال الخطابي : هم يقولون في النداء : " يا أبه يا أمه " إذا وقفوا ، فإذا وصلوا قالوا : يا أبت ويا أمت ، وإذا فتحوا للندبة قالوا : يا أبتاه ويا أمتاه والهاء الوقف ، وقال الكرماني : هذا ليس من باب الندبة ; إذ ليس ذلك تفجعا عليها ، وقال بعضهم : أصله يا أم ، فأضيف إليها ألف الاستغاثة ، فأبدلت تاء ، وزيدت هاء السكت بعد الألف ، قلت : لم يقل أحد ممن يؤخذ عنه أن الألف فيه للاستغاثة ، وأين الاستغاثة هاهنا . قوله : " لقد قف شعري " أي قام من الفزع لما حصل عندها من هيبة الله عز وجل ، وقال النضر بن شميل : القفة بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة ، وأصله التقبض والاجتماع ; لأن الجلد ينقبض عند الفزع ، فيقوم الشعر لذلك . قوله : " أين أنت من ثلاث " أي أين فهمك يغيب من استحضار ثلاثة أشياء ، فينبغي لك أن تستحضرها ليحيط علمك بكذب من يدعي وقوعها . قوله : " من حدثكهن " أي من حدثك هذه الثلاث فقد كذب . قوله : " من حدثك أن محمدا رأى ربه " هذا هو الأول من الثلاث ، وهو أن من يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه يعني ليلة المعراج فقد كذب في إخباره ، ثم استدلت عائشة على نفي الرؤية بالآيتين المذكورتين ; إحداهما هو قوله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وجه الاستدلال بها أن الله عز وجل نفى أن تدركه الأبصار ، وعدم الإدراك يقتضي نفي الرؤية ، وأجاب مثبتو الرؤية بأن المراد بالإدراك الإحاطة ، وهم يقولون بهذا أيضا ، وعدم الإحاطة لا يستلزم نفي الرؤية ، وقال النووي : لم تنف عائشة الرؤية بحديث مرفوع ، ولو كان معها فيه حديث لذكرته ، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية ، وقد خالفها غيرها من الصحابة ، والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا ، وقد خالف عائشة ابن عباس ، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه . قلت : أليس الله يقول لا تدركه الأبصار قال ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين ، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال : رأى محمد ربه . وبه قال سائر أصحاب ابن عباس وكعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر وآخرون ، وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه ، وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها ، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة رضي الله تعالى عنها ، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه .

                                                                                                                                                                                  قوله وما كان لبشر الآية ، هي الآية الثانية التي استدلت بها عائشة على نفي الرؤية ، وجه الاستدلال به أن الله تعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه ، وهي الوحي بأن يلقي في روعه ما يشاء أو يكلمه بغير واسطة من وراء حجاب ، أو يرسل إليه رسولا فيبلغه عنه ، فيستلزم ذلك انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم . وأجابوا عنه بأن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقا ، وغاية ما يقتضي نفي تكليم الله على غير هذه الأحوال الثلاثة ، فيجوز أن التكليم لم يقع حالة الرؤية .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب " هذا الثاني من الثلاث المذكورة ، واستدلت على ذلك بقوله تعالى وما تدري نفس ماذا تكسب غدا قوله : " ومن حدثك أنه كتم فقد كذب " هذا هو الثالث من الثلاث المذكورة ، أي ومن حدثك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الذي شرع الله تعالى له فقد كذب ; لأنه رسول مأمور بالتبليغ ، فليس له كتم شيء من ذلك ، واستدلت على ذلك بقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك قوله " ولكنه رأى جبرايل " هكذا رواية [ ص: 199 ] الكشميهني لكنه بالضمير ، وفي رواية غيره : ولكن ، بدون الضمير ، ولما نفت عائشة رضي الله تعالى عنها رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بعينه في سؤال مسروق عنها عن ذلك استدركت بقولها : " لكن رأى جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته مرتين " وأشارت بذلك إلى قوله تعالى ولقد رآه نـزلة أخرى قال الثعلبي : أي مرة أخرى سماها نزلة على الاستعارة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق عليها مرتين ; مرة بالأرض في الأفق الأعلى ، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى ، وهذا قول عائشة وأكثر العلماء ، وهو الاختيار ; لأنه قرن الرؤية بالمكان ، فقال عند سدرة المنتهى ولأنه قال نـزلة أخرى ووصف الله تعالى بالمكان والنزول الذي هو الانتقال محال ، فإن قلت : كيف التوفيق بين نفي عائشة الرؤية ، وإثبات ابن عباس إياها ؟

                                                                                                                                                                                  قلت : يحمل نفيها على رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب ، والدليل على هذا ما رواه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نـزلة أخرى قال رأى ربه بفؤاده مرتين ، وله من طريق عطاء ، عن ابن عباس قال : رآه بقلبه ، وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضا ، عن ابن عباس قال : لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رآه بقلبه ، وقد رجح القرطبي قول الوقف في هذه المسألة ، وعزاه لجماعة من المحققين . وقواه ; لأنه ليس في الباب دليل قاطع ، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل . قال : وليست المسألة من العمليات ، فيكتفى فيها بالأدلة الظنية ، وإنما هي من المعتقدات ، فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي ، ومال ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى الإثبات ، وأطنب في الاستدلال ، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين : مرة بعينه ومرة بقلبه والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية