الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3372 (30) باب

                                                                                              في غزوة ذي قرد وما تضمنته من الأحكام

                                                                                              [ 1320 ] عن سلمة بن الأكوع قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها. قال: فقعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جبا الركية فإما دعا ، وإما بسق فيها. قال: فجاشت فسقينا واستقينا ، قال: ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال فبايعته أول الناس ، ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من أول الناس . قال: بايع يا سلمة ، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس . قال : وأيضا . قال : ورآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزلا -يعني ليس معه سلاح- قال: فأعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجفة أو درقة ، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال: "ألا تبايعني يا سلمة". قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، وفي أسط الناس، قال: وأيضا. قال: فقد بايعته الثالثة ثم قال لي: "يا سلمة! أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ قال قلت: يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلا فأعطيته إياها . قال: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي". ثم إن المشركين راسلونا الصلح ، حتى مشى بعضنا في بعض ، واصطلحنا قال : وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه ، وأحسه ، وأخدمه وآكل من طعامه ، وتركت أهلي ومالي ، مهاجرا إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها ، فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبغضتهم ، فتحولت إلى شجرة أخرى ، وعلقوا سلاحهم ، واضطجعوا فبينما هم كذلك ، إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم . قال : فاخترطت سيفي ، ثم شددت على أولئك الأربعة، وهم رقود ، وأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي ، قال: ثم قلت : والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات ، يقال له مكرز ، يقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فرس مجفف في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "دعوهم يكن لهم بدء الفجور ، وثناه" فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الله وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم [الفتح: 24] الآية كلها. قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة ، فنزلنا منزلا ، بيننا وبين بني لحيان جبل ، وهم المشركون ، فاستغفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن رقي هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه . قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا ، ثم قدمنا المدينة فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بظهره مع رباح غلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وأنا معه ، وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر ، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستاقه أجمع ، وقتل راعيه قال فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله ، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المشركين قد أغاروا على سرحه ، قال: ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم وأرتجز أقول :


                                                                                              أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

                                                                                              فألحق رجلا منهم ، فأصك سهما في رحله ، حتى خلص النصل إلى كتفه .

                                                                                              قال: قلت خذها:


                                                                                              وأنا ابن الأكوع     واليوم يوم الرضع

                                                                                              قال: فوالله ما زلت أرميهم ، وأعقر بهم ، فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته ، فعقرت به ، حتى إذا تضايق الجبل ، فدخلوا في تضايقه ، علوت الجبل فجعلت أرميهم بالحجارة، قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا خلفته وراء ظهري ، وخلوا بيني وبينه ، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا ، يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة ، يعرفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، حتى أتوا متضايقا من ثنية ، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري ، فجلسوا يتضحون يعني يتغدون، وجلست على رأس قرن. قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح ، والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا ، حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة. قال فصعد إلي منهم أربعة في الجبل. قال: فلما أمكنوني من الكلام ، قال: قلت هل تعرفوني؟ قالوا: لا ، ومن أنت ؟ قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- ، لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ، ولا يطلبني فيدركني ، قال: أحدهم أنا أظن قال: فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يتخللون الشجر. قال فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري ، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي ، قال فأخذت: بعنان الأخرم. قال فولوا مدبرين قلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر ، وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه ، فطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه. ولحق أبو قتادة فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعبد الرحمن فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- لتبعتهم أعدو على رجلي، حتى ما أرى ورائي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا غبارهم شيئا، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له: ذو قرد; ليشربوا منه ، وهم عطاش ، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم فحليتهم عنه (يعني أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة قال: ويخرجون ويشتدون في ثنية قال: فأعدو فألحق رجلا منهم وأصكه بسهم في نغض كتفه. قال قلت: خذها:


                                                                                              وأنا ابن الأكوع     واليوم يوم الرضع

                                                                                              قال: يا ثكلته أمه أكوعه بكرة. قال: قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة. قال وأردوا فرسين على الثنية. قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن ، وسطيحة فيها ماء ، فتوضأت وشربت ، ثم أتيت رسول الله، وهو على الماء الذي حليتهم عنه ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وكل بردة ، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبدها وسنامها قال: قلت يا رسول الله! خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته. قال: فضحك رسول الله، -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه في ضوء النار، فقال: "يا سلمة! أتراك كنت فاعلا؟" قلت: نعم والذي أكرمك. قال: "إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان" . قال فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزورا ، فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا فقالوا: أتاكم القوم ، فخرجوا هاربين فلما أصبحنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة". قال: ثم أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمين: سهم الفارس ، وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعا، ثم أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة قال: فبينا نحن نسير ، قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا، قال: فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريما؟ ولا تهاب شريفا؟ قال: لا ، إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. قال: قلت: يا رسول الله! بأبي وأمي ذرني فلأسبق الرجل. قال: "إن شئت". قال: قلت: اذهب إليك، قال : وثنيت رجلي فطفرت، فعدوت، قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين، أستبقي نفسي، ثم عدوت في إثره فربطت عليه شرفا أو شرفين، قال ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه ، قال: قلت: قد سبقت والله، قال: أنا أظن، قال: فسبقته إلى المدينة قال: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:


                                                                                              تالله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
                                                                                              ونحن عن فضلك ما استغنينا     فثبت الأقدام إن لاقينا
                                                                                              وأنزلن سكينة علينا

                                                                                              فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: من هذا؟. قال: أنا عامر، قال: غفر لك ربك. قال وما استغفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان يخصه، إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب ، وهو على جمل له: يا نبي الله، لولا ما متعتنا بعامر؟ قال: فلما قدمنا خيبر ، قال: خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:


                                                                                              قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب
                                                                                              إذا الحروب أقبلت تلهب

                                                                                              قال: وبرز له عمي عامر فقال:


                                                                                              قد علمت خيبر أني عامر     شاكي السلاح بطل مغامر

                                                                                              قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ، فكانت فيها نفسه.

                                                                                              قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه، قال: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! بطل عمل عامر؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من قال ذلك؟ قال: قلت: ناس من أصحابك، قال: "كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين". ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد ، فقال: "لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله". قال: فأتيت عليا فجئت به أقوده ، وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فبسق في عينيه ، فبرأ ، وأعطاه الراية، وخرج مرحب فقال:


                                                                                              قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب
                                                                                              إذا الحروب أقبلت تلهب

                                                                                              فقال علي رضي الله عنه :


                                                                                              أنا الذي سمتني أمي حيدره     كليث غابات كريه المنظره
                                                                                              أوفيهم بالصاع كيل السندره

                                                                                              قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه .


                                                                                              رواه مسلم (1807).

                                                                                              [ ص: 669 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 669 ] (30) ومن باب: غزوة ذي قرد

                                                                                              ( الحديبية ) تقال بتخفيف الياء ، وتشديدها ، لغتان . وهو موضع فيه ماء على قرب من مكة ، كما تقدم . والرواية الصحيحة المشهورة : ( جبا الركية ) بالفتح في الجيم والباء بواحدة مقصورا ، وهو جانب البئر . و ( الركية ) البئر غير المطوية ، فإذا طويت فهي : الطوي . وللعذري : (جب ركية) بضم الجيم ، وكسر الباء . والجب : البئر ليست بعيدة القعر . و ( جاشت ) ; أي : ارتفعت . يقال : جاش الشيء ، يجيش جيشا ; إذا ارتفع .

                                                                                              [ ص: 670 ] وقوله : ( حجفة أو درقة ) على الشك من الراوي . والحجفة : الترس . وإنما يكون من عيدان ، والدرق من الجلود .

                                                                                              واختصاصه -صلى الله عليه وسلم- سلمة بتكرار البيعة ثلاثا ; تأكيدا في حقه ، لما علم -صلى الله عليه وسلم- من خصاله ، وكثرة غنائه ، كما قد ظهر منه على ما يأتي.

                                                                                              و ( عزلا ) الرواية فيه هنا ، وفي الحرف الآتي بعده : بفتح العين وكسر الزاي . وقال بعض اللغويين : الصواب : أعزل ، ولا يقال : عزل. وقيده بعضهم : عزلا- بضم العين والزاي- ، وكذا ذكره الهروي ، كما يقال : ناقة علط ، وجمل فنق . والجمع : أعزال . كما يقال : جنب وأجناب ، وماء سدم ، ومياه أسدام. والأعزل : الذي لا سلاح معه .

                                                                                              و ( أبغني ) : أعطني . يقال : بغيت الشيء من فلان فأبغانيه ; أي : أعطاني ما طلبته .

                                                                                              وقوله : ( ثم إن المشركين راسلونا الصلح ) ; هذه رواية العذري ، وهي من الرسالة . ورواه جماعة من رواة مسلم : ( راسونا ) بسين مهملة مشددة مضمومة ، [ ص: 671 ] وهو من : رس الحديث ، يرسه : إذا ابتدأه . ورسست بين القوم : أصلحت بينهم . ورسا لك الحديث رسوا : إذا ذكر لك منه طرفا . وروي : (راسونا) - بفتح السين- لابن ماهان . قال عياض : ولا وجه لها .

                                                                                              قوله : ( كنت تبيعا لأبي طلحة ) ; أي : خديما له . وهو من : تبعت الرجل : إذا سرت خلفه . و ( أحسه ) أنفض عنه التراب . والحس : الحك . و ( كسحت شوكها ) : كنسته . و ( الضغث ) : القبضة من الحشيش وغيره . و ( العبلات ) بطن من بني عبد شمس ، نسبوا إلى أم لهم تسمى : عبلة بنت عبيد ، من البراجم . و ( الفرس المجفف ) : الذي عليه تجفاف- بكسر التاء- وهو الجل . و ( بدء الفجور ) : أوله ، والفجور ضد البر . و ( ثناه ) : عوده ، بكسر الثاء المثلثة ، مقصورا . وهي الرواية [ ص: 672 ] المشهورة ، ولابن ماهان : (وثنياه) بضم الثاء ، وهو بالمعنى الأول. والفجور هنا هو : نقض العهد ، وروم غرة المسلمين ، وكان هذا في صلح الحديبية .

                                                                                              وعفو النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هؤلاء السبعين ليتم أمر الصلح . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقد اختلف في سبب نزول قوله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم [الفتح: 24] على أقوال هذا أحدها ، وهو أصحها .

                                                                                              وقوله : ( وهم المشركون ) بضم الهاء ، وتخفيف الميم ، وهي ضمير الجمع . وقد ضبطه بعض الشيوخ : (وهم) بفتح الهاء ، والميم وتشديدها ; على أنه فعل ماض . و ( المشركون ) فاعل به .

                                                                                              قال عياض : معناه : هم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين أمرهم لئلا يغدروهم ، ويبيتوهم لقربهم منهم . يقال : همني الأمر ، وأهمني . ويقال : همني : أذابني ، وأهمني : غمني .

                                                                                              قلت : والأقرب أن يكون معناه : هم المشركون بالغدر ، واستشعر المسلمون منهم بذلك .

                                                                                              [ ص: 673 ] و ( الظهر ) : الإبل التي تحمل على ظهورها الأثقال . و ( أنديه مع الظهر ) ; أي : أورده الماء فيشرب قليلا ، ثم أرعاه وأورده. وهي التندية ، وأصلها للإبل . وقد تكون التندية في الفرس بمعنى : التضمير ، وهي : أن يجري الفرس حتى يعرق . ويقال لذلك العرق : الندى ، قاله الأصمعي .

                                                                                              و ( استاقه ) ; أي : حمله ، والتاء زائدة للاستفعال . و ( السرح ) الإبل التي تسرح في المرعى . و ( الأكمة ) : الجبيل الصغير .

                                                                                              وقوله : ( يا صباحاه ) هاؤه ساكنة ، وهو يشبه المنادى المندوب ، وليس به . ومعناه هنا : الإعلام بهذا الأمر المهم الذي قد دهمهم في الصباح .

                                                                                              وقوله : ( وأنا ابن الأكوع ) الكوع : اعوجاج في اليدين . قيل : الكوع والوكع في الرجل : أن تميل إبهامها على أصابعها . واسم الأكوع : سنان بن عبد الله بن بشير ، وهو أبو سلمة على ما ذكره محمد بن سعد . وقيل : اسم أبي سلمة : عمرو بن الأكوع ، وهو جد سلمة ، فنسب إليه .

                                                                                              وقوله : ( واليوم يوم الرضع ) : الرضع : جمع راضع ، وهو اللئيم . وأصله : أن رجلا كان يرضع الإبل، ولا يحلبها ، لئلا يسمع صوت الحلب فيقصد، فعبروا [ ص: 674 ] عن كل لئيم بذلك . وعليه قالوا في المثل : لئيم راضع . وقيل : لأنه يرضع اللؤم من أمه ، وهو مطبوع عليه . وقيل : معناه : اليوم يظهر من أرضعته كريمة أو لئيمة . وقيل : اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره .

                                                                                              وقوله : ( فأصك سهما في رحله ، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه ) ; كذا روايتنا فيه ، بالحاء المهملة. ويعني به : أن سهمه أصاب أخرة رحله ، فنفذها ، ووصل إلى كتفه . وفي بعض النسخ : ( فأصكه سهما في رجله حتى خلص إلى كعبه ) ، والأول أشبه. و ( أصك ) : أضرب. و ( ألحق ) و ( أصك ) : مضارعان ، ومعناهما : المضي .

                                                                                              وقوله : ( فما زلت أرميهم ) ; أي : أرميهم بالسهام ( وأعقر بهم ) خيلهم ، ومنه ( فعقر بعبد الرحمن فرسه ) ، ويحتمل أن يكون معناه : أصيح بهم ، من قولهم : رفع [ ص: 675 ] عقيرته ; أي : صوته . و ( يتضحون ) ; أي : يتغدون . وأصله : يأكلون عند الضحى . و ( يقرون ) : يضافون . أخبرهم -صلى الله عليه وسلم- : بأنهم قد وصلوا إلى بلادهم ، وأنهم قد فاتوهم . و ( الأرام ) : بألف ساكنة من غير همز : الأعلام من الحجارة . قال الشاعر :


                                                                                              وبيداء تحسب آرامها رجال إياد بأجلادها

                                                                                              يعني : بأشخاصها . و (الأرآم) بهمز الألف : الظباء . و ( القرن ) : جبل صغير منفرد منقطع من جبل كبير . و ( البرح ) مفتوحة الباء ، ساكنة الراء ، يعني به : المشقة الشديدة .

                                                                                              وقوله : ( أنا أظن ) أي : أتيقن . كما قال تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه [الحاقة: 20] ; أي تحققت ، وأيقنت . ويحتمل البقاء على أصل الظن الذي هو تغليب لأحد المحتملين ، وقد اقتصر عليها ولم يذكر لها هنا مفعول . ويحتمل أن يكون حذف مفعولها للعلم به ، وهو : ذاك الذي هو إشارة إلى أن المصدر الذي يكتفى به عن المفعولين ، كما تقول : ظننت ذاك . والله أعلم .

                                                                                              و ( أعدو على رجلي ) ; أي : أشتد في الجري . و ( حليتهم ) كذا وقع في رواية القاضي بالياء ، وقال : أصله الهمز فسهل .

                                                                                              [ ص: 676 ] قلت : وصوابه : الهمز ، وهو أصله ، وهذا تسهيل لا يقتضيه القياس ، وروايتي فيه بالهمز على الأصل . ومعناه : طردتهم عن الماء.

                                                                                              و ( الثنية ) : الطريق في الجبل .

                                                                                              وقوله : ( يا ثكلته أمه ) يا : للنداء ، والمنادى محذوف ويشبه أن يكون المحذوف (من) الموصولة متعلقة بـ ( ثكلته أمه ) ، وكأنه قال : يا من ثكلته أمه. [ ص: 677 ] فحذفها للعلم بها . ويحتمل غير هذا ، وهذا أشبه . والثكل : الفقد. والثكلى : المرأة الفاقدة ولدها ، الحزينة عليه . ومنه قولهم : ثكل خير من عقوق ، وكأنه دعا عليه بالفقد والهلاك .

                                                                                              وقوله : ( أكوعه بكرة ) الضمير في أكوعه يعود على المتكلم على تقدير الغيبة ، كأنه قال : أكوع الرجل المتكلم ، وقد فهم منه هذا سلمة ، حيث أجابه بقوله : ( أكوعك بكرة ) ، فخاطبه بذلك و (بكرة) منصوب ، غير منون على الظرف ; لأنه لا ينصرف للتعريف والتأنيث ; لأنه أريد بها بكرة معينة ، وكذلك : غدوة . وليس ذلك لشيء من ظروف الأزمنة سواهما فيما علمت .

                                                                                              وقوله : ( وأرذوا فرسين ) ، روايتي فيه بالذال ، ومعناه : تركوا فرسين معيبين لم يقدرا على النهوض من الضعف والكلال . والرذية : المعيبة ، وجمعها : رذايا ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                              ................ فهن رذايا في الطريق ودائع

                                                                                              وقد روي بالدال المهملة ( أردوا ) ; أي : تركوهما هلكى ، من الردى ، وهو الهلاك ، والأول أوجه ; لأنه قال : فأقبلت بهما أسوقهما ، فدل على أنهما لم يهلكا ، وإنما ثقلا كلالا وإعياء .

                                                                                              و ( السطيحة ) : إناء من جلود يسطح بعضها فوق بعض . و ( المذقة ) : القطرة من اللبن الممزوج بالماء . و ( المذق ) : مزج اللبن بالماء ، وقد تقدم القول في النواجذ ، وأن المراد بها- هنا- : الضواحك .

                                                                                              [ ص: 678 ] وقوله : ( أعطاني سهمين : سهم الفارس ، وسهم الراجل ) ; أما سهم الراجل فهو حقه ، وأما سهم الفارس فإنما أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه لشدة غنائه ، ولأنه هو الذي استنقذ تلك الغنائم ، وهو الذي تنزل منزلة الجيش فيما فعل ، ولم يسمع بمن فعل مثل فعله في تلك الغزاة ، ثم لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أعطاه سهم الفارس من الخمس ، فإن كان أعطاه من الغنيمة فذلك خصوص به لخصوص فعله .

                                                                                              وقوله : ( ألا مسابق ؟ ) ألا مسابق؟ : قيدناه مفتوحا بغير تنوين ; لأنها (لا) التي للنفي والتبرئة ، زيدت عليها همزة الاستفهام ، وأشربت معنى التمني ; كما قالوا : ألا سيف صارما ؟ ألا ماء باردا ؟ بغير تنوين على ما حكاه سيبويه ، وأنشد :


                                                                                              ألا طعان ، ألا فرسان عادية إلا تجشؤكم عند التنانير

                                                                                              [ ص: 679 ] ويجوز الرفع على أن تكون ( ألا ) استفتاحا ، ويكون ( مسابق ) مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : ألا هنا مسابق ، أو نحوه .

                                                                                              وقول سلمة للرجل : أما تكرم كريما ، ولا تهاب شريفا ؟ يدل على أنه فهم من قول الرجل : ( ألا مسابق ) النفي . فكأنه قال : لا أحد يسبقني. فلذلك أنكر عليه سلمة .

                                                                                              ولو كان عرضا فقط لم يكن فيه ما ينكره .

                                                                                              و ( ذرني ) ; أي : دعني ( فلأسبق ) منصوب بلام كي ، على زيادة الفاء. و ( طفرت ) : وثبت وقــفزت . و ( ربطت عليه ) : شددت عليه. ( شرفا أو شرفين ) ; يعني : طلقا أو طلقين . ( أستبقي ) أبقي . ( نفسي ) رويناه بفتح الفاء وسكونها. ففي الفتح يعني به : التنفس. يريد : أنه رفق في جريه مخافة ضيق النفس. وبالسكون يعني به : أروح نفسي وأجمها لجري آخر .

                                                                                              وقوله : ( ثم إني رفعت ) ; أي : زدت في السير . ويروى : (دفعت) بالدال ; أي : دفعت دفعة شديدة من الجري ، وكلاهما قريب في المعنى.

                                                                                              [ ص: 680 ] وقوله : ( اذهب إليك ) ; قيدناه على من يوثق بعلمه على الأمر ; أي : انفذ لوجهك ، وخذ في الجري . يقوله سلمة وهو راكب خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي قال : ألا مسابق . ولذلك قال : وثنيت رجلي ; أي : نزلت عن ظهر العضباء . و ( إليك ) على هذا معمول لـ ( اذهب ) ; أي : انفذ لوجهك .

                                                                                              وقوله : ( والله! ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر ) ; ظاهر هذا الكلام : أن غزوة خيبر كانت على إثر غزوة ذي قرد ; إذ لم يكن بينهما إلا هذا الزمان اليسير ، الذي هو ثلاث ليال ، وليس كذلك عند أحد من أصحاب السير والتواريخ ; فإن غزوة ذي قرد كانت في جمادى الأولى من السنة السادسة من الهجرة ، ثم غزا بعدها بني المصطلق في شعبان من تلك السنة ، ثم اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة من تلك السنة ، ثم رجع إلى المدينة ، وأقام بها ذا الحجة وبعض المحرم ، وخرج في بقية منه إلى خيبر ، هكذا ذكره أبو عمر بن عبد البر وغيره ، ولا يكادون يختلفون في ذلك . وهذا الذي وقع في هذا الحديث وهم من بعض الرواة ، ويحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أغزى سرية فيهم سلمة إلى خيبر قبل فتحها ، فأخبر سلمة عن نفسه ، وعمن خرج معه. وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب "المغازي" له : أنه -صلى الله عليه وسلم- أغزى إليها عبد الله بن رواحة قبل فتحها مرتين . والله أعلم .

                                                                                              و ( ذو قرد ) المشهور فيه بفتح القاف والراء . وقد قيل فيه بضمهما . والقرد في اللغة هو : الصوف الرديء . يقال في المثل : عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع [ ص: 681 ] بنجد قردة . وهو في الحديث : موضع معروف. حكى هذا كله السهيلي .

                                                                                              وقول عمر : ( يا رسول الله! لولا متعتنا به ; أي : هلا دعوت الله أن يمتعنا ببقائه . و ( يخطر بسيفه ) ; أي : يهزه متكبرا ، و ( شاكي السلاح ) هو الذي جمع عليه سلاحه. يقال : شاكي السلاح ، و (شاك) بالكسر- و (شاك) بالرفع ، و (شائك) ، وهذا أصوب ، وما قبله مقلوب . والشكة ، والشوكة : السلاح. و ( مجرب ) روايتنا فيه بفتح الراء على أنه اسم مفعول ; يعني : أنه جربت حروبه ، وعلمت . ويصح أن يقال بالكسر على أنه اسم فاعل ، يعني : أنه جرب الحروب بنفسه ، فخبرها.

                                                                                              وقول عامر : ( بطل مغامر ) ; البطل : الشجاع . يقال : بطل بين البطولة والبطالة . و (المغامر) : اسم فاعل من: غامر ; يعني : أنه يأتي غمرات الحروب ، ويقتحمها. وأصله من الغمر ، وهو الماء الكثير . و ( يسفل ) بسيفه ; أي : يختل أن يضربه ، من أسفله .

                                                                                              [ ص: 682 ] وقول علي : ( أنا الذي سمتني أمي حيدرة ) ; حيدرة : من أسماء الأسد ، وله أسماء كثيرة . وكان علي سماه أبوه عليا ، وسمته أمه أسدا باسم أبيها ، فغلب عليه ما سماه به أبوه ، فذكر الآن ما سمته به أمه لمناسبة ما بين الحرب وصولة الأسد .

                                                                                              والهاء في ( حيدره ) وفي ( المنظره ) زائدة للاستراحة . والمنظرة : المنظر . ويعني : أنه كريه المنظر في عين عدوه ; لأن موت عدوه مقرون بنظره إليه .

                                                                                              و ( ليث ) من [ ص: 683 ] أسماء الأسد . و ( الغابات ) : جمع غابة ، وهي ملتف الشجر ; لأنها تغيب فيها من يدخلها . و ( السندرة ) : مكيال واسع . قال القتبي : ويحتمل أن يكون أخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي . قال صاحب العين : كيل السندرة : ضرب من الكيل ، ومعناه : أقتلهم قتلا واسعا . وقيل : السندرة : العجلة ; أي : أقتلهم قتلا عجلا عاجلا .

                                                                                              وفي هذا الحديث أربع ، ومن الفقه والأحكام ما فيه كثرة لا تخفى على فطن ، من أهمها : جواز استقتال المرء نفسه في سبيل الله إرادة الشهادة ، واقتحام الواحد على الجمع ; إذا كان من أهل النجدة . وجواز المبارزة بغير إذن الإمام . وهو حجة على من كرهها مطلقا ، وهو الحسن ، وعلى من اشترط في جوازها إذن الإمام : وهو إسحاق ، وأحمد ، والثوري . ثم هل يعان المبارز أم لا ؟ أجازها أحمد وإسحاق ، ومنعها الأوزاعي ، وفسر الشافعي فقال : إن شرط المبارز عدمها لم يجز ، وإن لم يشترط جاز .

                                                                                              وظاهر هذا الحديث : أن الذي قتل مرحبا هو علي رضي الله عنه . وقد روي : أن الذي قتله محمد بن مسلمة . وحكى محمد بن سعد : أن الذي قتله ، محمد ، وذفف عليه علي .




                                                                                              الخدمات العلمية