الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3325 [ 1292 ] وعن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة ، فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ، ما ولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح ، أو كبير سلاح ، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، جمع هوازن وبني نصر ، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون ، فأقبلوا هناك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به ، فنزل فاستنصر فقال:

                                                                                              أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب -زاد في رواية: اللهم نزل نصرك- قال : ثم صفهم . قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به ، وإن الشجاع منا الذي يحاذي به ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                              وفي رواية : ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر ، وكانت هوازن يومئذ رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا ، فانكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام .


                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 281 ) والبخاري (2874)، ومسلم (1776) (78 و 79 و 80)، والترمذي (1688).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و ( الحسر ) : جمع حاسر ، وهو الذي لا درع معه ، ولا شيء يتقي به النبل .

                                                                                              [ ص: 618 ] و ( الأخفاء ) : المسرعون ، المستعجلون . وقد رواه الحربي ، والمغربي : (جفاء من الناس) بجيم مضمومة مخففة والمد ، وفسره المهدوي بالسراع ، شبههم بجفاء السيل ، وهو غثاؤه . وقال غيره : إنما أراد به أخلاط الناس ، وضعفاءهم ممن لم يقصد القتال ، بل الغنيمة ، وفي قلبه مرض ، شبههم بغثاء السيل ، وهو ما احتمله السيل .

                                                                                              و ( استنصر ) ; أي : سأل النصر ، ودعا به .

                                                                                              وقوله : ( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ) ; أي : أنا النبي المعروف عند علماء الكتاب ، المنعوت في كتبهم حقا بلا كذب . وانتسابه لعبد المطلب ; لأنه بذلك كان شهر عندهم ; لأن أباه عبد الله مات وتركه حملا ، فولد ، ونشأ في حجر جده عبد المطلب ، ثم إن عبد المطلب أحبه حبا شديدا ، بحيث كان يفضله على أولاده ، لما كان ظهر له من بركاته ، وكراماته ، فكان يلازمه لذلك ، فعرف به ، ولذلك ناداه ضمام بن ثعلبة : يا ابن عبد المطلب ! فانتمى هو عند الحرب على عادة الشجعان في انتسابهم لمن كان يعرف به. وقيل : إنما كان ذلك منه [ ص: 619 ] تنبيها على ما قال سيف بن ذي يزن لعبد المطلب حين قدم عليه في وفد قريش ، حيث بشره بأنه يكون من ولده نبي يقتل أعداءه. ولم يكن ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- على جهة الافتخار بآبائه ، فإن ذلك من خلق الجاهلية التي قد نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وحرمها ، وذم من انتمى إليها .

                                                                                              لا يقال ; فكيف يصح أن ينسب هذا الشعر للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له [يس : 69] ; لأنا نجيب عن ذلك بأوجه :

                                                                                              أحدها : أن هذا قصد به السجع لا الشعر ، فليس بشعر . قيل قد قال الأخفش : إن هذا رجز ، والرجز ليس من الشعر .

                                                                                              والثاني : أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد نظما ووزنا فيكون شعرا ، فقد يأتي في الكلام والقرآن ما يتزن بوزن الشعر وليس بشعر ، كقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران: 92] وقوله : نصر من الله وفتح قريب [الصف: 13] وكثيرا ما يقع للعوام في كلامهم المقــفى الموزون ، وليس بشعر ، ولا يسمى قائله شاعرا ; لأنه لم يقصده ، ولا شعر به . والشعر إنما سمي بذلك ; لأن قائله يشعر به ويقصده نظما ، ووزنا ، ورويا ، وقافية ، ومعنى .

                                                                                              والثالث : على تسليم أن هذا شعر فلا يلزم منه أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- عالما بالشعر ، ولا شاعرا ; فإن التمثل بالبيت الندر ، وإصابة القافيتين من الرجز وغيره ; لا يوجب أن يكون قائلها عالما بالشعر ، ولا يسمى شاعرا باتفاق العقلاء . وأما الذي نفى الله عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- فهو العلم بالشعر ، وأصنافه ، وأعاريضه ، وقوافيه ، [ ص: 620 ] والاتصاف بقوله ، ولم يكن موصوفا بشيء من ذلك بالاتفاق ، ألا ترى أن قريشا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم ، فقال بعضهم : نقول : إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم : والله لتكذبنكم العرب ، فإنهم يعرفون أصناف الشعر ، فوالله ما يشبه شيئا منها ، وما قوله بشعر . وقال أنيس أخو أبي ذر : لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم أنه شعر . وكان

                                                                                              أنيس من أشعر العرب . وهذا الوجه هو المعتمد في الانفصال . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وفائدة قوله -صلى الله عليه وسلم- : ( أنا النبي لا كذب ) إلى آخره ; جواز الانتماء عند الحرب ، كما قال سلمة بن الأكوع : خذها وأنا ابن الأكوع . وقد روي ذلك عن جماعة من السلف . وقال ابن عبد الحكم من أصحابنا : إنما يكره أن يكون ذلك على وجه الكبر ، والافتخار ، كما كانت الجاهلية تفعل .

                                                                                              وقوله- أعني البراء - : ( كنا إذا احمر البأس نتقي به ) ; هذا كناية عن شدة الحرب ، إما لحمرة دم الجرحى والقتلى . وإما لتشبيه ذلك بحمرة جمرة النار . و (البأس) هنا : الحرب .

                                                                                              وقوله : ( ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر ) ; هذا هو المعلوم من حاله ، وحال الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم ; من إقدامهم ، وشجاعتهم ، وثقتهم بوعد [ ص: 621 ] الله تعالى ، ورغبتهم في الشهادة ، وفي لقاء الله تعالى . ولم يثبت قط عن واحد منهم : أنه فر ، أو انهزم ، ومن قال ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال : فر أو انهزم ; قتل ، ولم يستتب ; لأنه صار بمنزلة من قال : إنه -صلى الله عليه وسلم- كان أسود ، أو أعجميا ، فأنكر ما علم من وصفه قطعا ، وكذب به ، وذلك كفر ، ولأنه قد أضاف إليه نقصا وعيبا . وقد حكى أصحابنا الإجماع على قتل من أضاف إليه نقصا أو عيبا . وقيل : يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل .




                                                                                              الخدمات العلمية