الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1656 [ 858 ] وعن الأحنف بن قيس قال : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم ، فقال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل . قال : فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا ، قال : فأدبر واتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لا يعقلون شيئا ، إن خليلي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - دعاني فأجبته ، فقال : (أترى أحدا ؟) فنظرت ما علي من الشمس ، وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له ، فقلت : أراه ، فقال : ( ما يسرني أن لي مثله ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير) ، ثم هؤلاء يجمعون الدنيا ولا يعقلون شيئا ، قال : قلت : ما لك ولإخوتك قريش لا تعتريهم وتصيب منهم ، قال : لا وربك ! لا أسألهم عن دينار ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله .

                                                                                              وفي رواية : بشر الكنازين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم ، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم ، قال : ثم تنحى فقعد ، قال : قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا أبو ذر ، قال : فقمت إليه ، فقلت : ما شيء سمعتك تقول قبيل ؟ قال : ما قلت إلا شيئا قد سمعته من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - قال : قلت : ما تقول في هذا العطاء ؟ قال : خذه ; فإن فيه اليوم معونة فإذا كان ثمنا لدينك فدعه .

                                                                                              رواه أحمد (5 \ 160)، والبخاري (1107)، ومسلم (992) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول الأحنف بن قيس : " إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه " ; كذا صح هنا من رواية الكرمي بالخاء والشين المعجمتين ، من الخشونة على وزن أفعل ، إلا أنه عند ابن الحذاء في الآخر : " حسن الوجه " . وقد [ ص: 33 ] رواه القابسي في البخاري : " حسن الشعر والثياب والهيئة " من الحسن . ولغيره : " خشن " من الخشونة ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

                                                                                              و" قام عليهم " : وقف عليهم . و " الملأ " : الأشراف في أصله ، وقد يقال على الجماعة ، وهو مهموز مقصور .

                                                                                              وقوله : ( بشر الكنازين ) ; أي : الجماعين ، ويروى : " الكانزين " ، وهو بالنون عن الكنز . ووقع عند الهروي : الكاثرين ، بالثاء المثلثة ، [من الكثرة] ، والأول أولى ; لأنه إنما يقال للكثير المال : مكثر ، لا كاثر . وأما الكاثر : فهو الشيء الكثير ، يقال : كثير وكاثر وكثار ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                              . . . . . . . . . . . . فإنما العزة للكاثر

                                                                                              والرضف " : الحجارة المحماة . و " الحلمة " : رأس الثدي للمرأة . والثندوة للرجل . و " نغض الكتف " - بضم النون - : العظم الرقيق الذي في طرف الكتف ، وهو الناغض ، سمي بذلك لحركته ، من قولهم : أنغض رأسه ; أي : حركه ، ومنه قوله تعالى : فسينغضون إليك رءوسهم ; أي : يحركونها استهزاء .

                                                                                              ويتزلزل " - بزاءين معجمتين " ; أي : يتحرك ، يعني : الرضف يتزلزل من النغض إلى الحلمة . ووضع الناس رؤوسهم " : أطرقوا متخشعين ، أو مستثقلين ، يدل عليه قوله : " إن هؤلاء لا يعقلون شيئا " . و " لم يرجع " ; أي : لم يرد . و " أحد " : جبل [ ص: 34 ] معروف بالمدينة . واستفهامه له عن رؤيته لتحقق رؤيته حتى يشبه له به ما أراد بقوله : ( ما يسرني أن لي مثله ذهبا ) .

                                                                                              وقوله : " إلا ثلاثة دنانير " ; يعني : دينارا يرصده لدين ; أي : يؤخره . ودينارا لأهله ، ودينارا لإعتاق رقبة ، والله أعلم .

                                                                                              وقوله : " ثم هؤلاء " ظاهر احتجاج أبي ذر بهذا الحديث وشبهه : أن الكنز المتوعد عليه هو جمع ما فضل عن الحاجة ، وهكذا نقل من مذهبه ، وهو من شدائده - رضي الله عنه - ، ومما انفرد به . وقد روي عنه خلاف ذلك ، وحمل إنكاره هذا على ما أخذه السلاطين لأنفسهم ، وجمعوه لهم من بيت المال وغيره ، ولذلك هجرهم ، وقال : " لا أسألهم دنيا ، ولا أستفتيهم عن دين " ، والله أعلم .

                                                                                              و" يعتريهم " : يزورهم ويأتيهم بطلب منهم ، ومنه قوله تعالى : وأطعموا القانع والمعتر وهو الزائر ، يقال منه : أعروته واعتريته ; أي : أتيته أطلب منه حاجة .

                                                                                              وهذا الحديث يدل على تفضيل الفقر على الغنى ، وقد تقدمت المسألة .

                                                                                              والعطاء الذي سئل عنه أبو ذر ; هو ما يعطاه الرجل من بيت المال على وجه [ ص: 35 ] يستحقه ، وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر : (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك) .

                                                                                              وقوله : " فإذا كان ثمنا لدينك فدعه " ; أي : إذا كنت لا تتوصل إليه إلا بوجه غير جائز ، فلا تلتفت إليه ، فإن سلامة الدين أهم من نيل الدنيا ، فكيف إذا انتهى الأمر ، إلا أن لا يسلم دين ولا تنال دنيا ؟ ! ومن أخسر صفقة ممن خسر الآخرة والأولى ؟ ! نعوذ بالله من سخطه .




                                                                                              الخدمات العلمية