الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال طائفة من أهل العربية ما قاله ابن قتيبة من أن قوله: يتظاهرون في الجاهلية، ثم يعودون إليه في الإسلام. وهو قول فاسد أيضا. [ ص: 402 ]

وقال أبو علي الفارسي قولا ثالثا، قال: ليس الأمر كما ادعاه من قال بتكرير اللفظ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه، وقيل: سميت الآخرة معادا، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها.

وقال الهذلي :


وعاد الفتى كالطفل ليس بقائل سوى الحق شيئا واستراح العواذل



وهذا أيضا ضعيف من وجوه:

أحدها: أن لفظ العود لا بد أن يتضمن رجوعا عن شيء أو إلى شيء، فقوله "وعاد الفتى كالطفل"، وقوله:

.... فعادا بعد أبوالا

وفي الحديث : "تعاد روحها" هو رجوع عن حال كانوا عليها إلى حال أخرى. فأما الأمر المبتدأ إذا فعله الإنسان فلا يقال: إنه عاد إليه.

وأيضا فما ذكروه إنما هو في لفظ العود مجردا، فإذا قيل: عاد إلى كذا، ورجع إليه، وعاد فيه، كما قال: ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ، وقال أصحاب الكهف: إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا . [ ص: 403 ]

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" . فهذا ونحوه إنما يعرف إذا عاد إلى مثل ما كان عليه أولا. والمعاد سمي معادا؛ لأن الله يعيد الخلق فيه بالنشأة الثانية، كما قال: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، وقال:

كما بدأنا أول خلق نعيده ، وقال: كما بدأكم تعودون .

وأيضا فإنهم يعودون إلى ربهم، كما يقال: إنهم يرجعون إليه ويردون إليه، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.

وأيضا فهب أن لفظ العود لا يقتضي ذلك، فلا بد من تفسير قوله ثم يعودون لما قالوا . وأبو علي لم يذكر معنى الكلام.

وقد قيل فيها قول رابع وخامس على أصل من يقول: إنها مصدرية، قال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.

فجعل اللام لام كي، لم يجعلها معدية ليعودون.

وأضعف منه قول من يقول : هو محمول على التقديم والتأخير، والمعنى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، أي: يعودون إلى ما كانوا عليه من الجماع، فتحرير رقبة من أجل ما قالوا. [ ص: 404 ]

وهذا فاسد من وجوه:

أحدها: أنه لم يقل "فلما قالوا تحرير رقبة" أو "تحرير رقبة لما قالوا"، بل قال: ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة . ولا يجوز أن يقال: "لما قالوا فتحرير رقبة"، فإن الفاء هي جواب الشرط، والشرط هو ما في الاسم الموصول من معنى الشرط، والاسم الموصول أو النكرة الموصوفة - إذا كان في الصلة أو الصفة معنى الشرط - دخلت الفاء في خبر المبتدأ، كقوله: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم ، ومثله قوله: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، وقوله: واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . ولو دخلت "إن" على المبتدأ ففيه نزاع، والقرآن قد جاء بالفاء في قوله: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم . فقوله والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة بمنزلة قوله: "من تظاهر ثم عاد فعليه تحرير رقبة". ولا يجوز أن يقال: "لما عاد فعليه تحرير رقبة".

وأيضا فتحرير الرقبة لم يجب لمجرد العود، بل الموجب له الظهار، والعود شرط، أو الموجب مجموعهما، فقولهم: إن الرقية إنما وجبت لأجل العود فقط غلط.

وقول الزجاج: ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا، [ ص: 405 ] فاسد أيضا، فإنهم إذا عادوا مع الظهار وجبت الكفارة، وإن لم يعودوا لأجل ما قالوا.

وأيضا فهم لا يعودون لأجل ما قالوا، بل يعودون لرغبتهم في المرأة لا للقول، بل القول مانع من العود، فكيف يجعل علة له وداعيا إليه.

وهذه كلها أقوال من لم يفهم الآية ولا حكم الشرع، بل ظنوا أن "ما" مصدرية، ولم يفهموا المعنى إذا كانت موصولة.

وفيها قول سادس، وهو أنها مصدرية، لكن المصدر بمعنى المفعول، ذكره المهدوي وغيره.

والصواب أنها موصولة، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وكما في نظائرها من القرآن، ولبطلان معنى المصدرية، قال تعالى: ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ، وقال تعالى: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون .

وقد أطلق العود في قوله وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين ، وفي قوله: وإن تعودوا نعد ، وفي قوله: وإن عدتم عدنا .

والذي قالوه هو المقول، كما في قوله: ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ، فإنهم بيتوا غير الذي [ ص: 406 ] أمرهم به وقالوا فيه طاعة، وهو غير المقول، ليس المراد أنهم بيتوا لفظا غير اللفظ الذي لفظت به، فإن هذا لا يضر إذا كان المعنى موافقا لما قاله.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . فقوله "ما لا تفعلون" هو مفعول القول، وهو المقول، وهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه، فكان إخبارهم عن أنفسهم أنهم إذا علموا الأحب فعلوه، ووعدهم بذلك، والمقول هو فعلهم للأحب، وهو الموعود به المخبر عنه، فلامهم على أن قالوا مقولا هو موعود مخبر به ولم يفعلوه، وكان الفعل نفسه هو المقول، فالمقول هو المخبر عنه إن كان القول خبرا، والمأمور به والمنهي عنه إن كان القول أمرا أو نهيا. فإذا قال: لا أفعل، ثم فعل، فقد عاد لما قال، وإذا قال لأفعلن، ولم يفعل، فلم يفعل ما قال. وهذا هو المعنى المفهوم في مثل هذا اللفظ عند عامة الناس الخاصة والعامة، بل وفي سائر اللغات، فإذا قيل: فلان قد حلف أن لا يكلم فلانا، أو قال: لا أكلمه، ثم عاد إلى ما قال، فهموا منه أنه عاد إلى أن يكلمه، لم يفهموا أن ما مصدرية.

التالي السابق


الخدمات العلمية