الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا

قوله تعالى : وجزاهم بما صبروا على الفقر . وقال القرظي : على الصوم . وقال [ ص: 121 ] عطاء : على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر . وقيل : بصبرهم على طاعة الله ، وصبرهم على معصية الله ومحارمه . و ( ما ) : مصدرية ، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا . وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الصبر فقال : " الصبر أربعة : أولها الصبر عند الصدمة الأولى ، والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب " .

جنة وحريرا أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير . أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [ وفيه ] ما شاء الله - عز وجل - من الفضل . وقد تقدم : أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها .

قوله تعالى : متكئين فيها أي في الجنة ; ونصب متكئين على الحال من الهاء والميم في جزاهم والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها صبروا ; لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة . وقال الفراء . وإن شئت جعلت متكئين تابعا ، كأنه قال جزاهم جنة متكئين فيها .

على الأرائك السرر في الحجال وقد تقدم . وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير ، ومنها السجل ، وهو الدلو الممتلئ ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلا ، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ ، والكأس لا تسمى كأسا حتى تترع من الخمر . وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى ، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان ; قال ذو الرمة :


خدود جفت في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الأرائك

أي الفرش على السرر .

لا يرون فيها شمسا أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس ولا زمهريرا أي ولا بردا مفرطا ; قال الأعشى :


منعمة طفلة كالمها     ة لم تر شمسا ولا زمهريرا

وعن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اشتكت النار إلى ربها - عز وجل - قالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف ، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من [ ص: 122 ] سمومها ) . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن هواء الجنة سجسج : لا حر ولا برد " والسجسج : الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس . وقال مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع . وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد . وقال ابن مسعود : هو لون من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا . قال أبو النجم :


أو كنت ريحا كنت زمهريرا

وقال ثعلب : الزمهرير : القمر بلغة طيئ ; قال شاعرهم :


وليلة ظلامها قد اعتكر     قطعتها والزمهرير ما زهر

ويروى : ما ظهر ; أي لم يطلع القمر . فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا ، أي إنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار ; لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر . وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة ( مريم ) عند قوله تعالى : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا . وقال ابن عباس : بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة ، فيقولون : قال ربنا : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا فما هذا النور ؟ فيقول لهم رضوان : ليست هذه شمسا ولا قمرا ، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله تعالى : هل أتى على الإنسان وأنشد :


أنا مولى لفتى     أنزل فيه هل أتى
ذاك علي المرتضى     وابن عم المصطفى

قوله تعالى : ودانية عليهم ظلالها أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار ، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم ; كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم . ويقال : إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام ، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها . وانتصبت دانية على الحال عطفا على [ ص: 123 ] ( متكئين ) كما تقول : في الدار عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال . وقيل : انتصبت نعتا للجنة ; أي وجزاهم جنة دانية ، فهي ، صفة لموصوف محذوف . وقيل : على موضع لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ويرون دانية ، وقيل : على المدح أي دنت دانية . قاله الفراء . ظلالها الظلال مرفوعة بدانية ، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز ، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في وجزاهم وقد قرئ بذلك . وفي قراءة عبد الله ( ودانيا عليهم ) لتقدم الفعل . وفي حرف أبي ( ودان ) رفع على الاستئناف .

وذللت أي سخرت لهم قطوفها أي ثمارها تذليلا أي تسخيرا ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك ; قاله قتادة . وقال مجاهد : إن قام أحد ارتفعت له ، وإن جلس تدلت عليه ، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها . وعنه أيضا : أرض الجنة من ورق ، وترابها الزعفران ، وطيبها مسك أذفر ، وأصول شجرها ذهب وورق ، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت ، والثمر تحت ذلك كله ; فمن أكل منها قائما لم تؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه ، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه . وقال ابن عباس : إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد ، وتذليل القطوف تسهيل التناول . والقطوف : الثمار ، الواحد قطف بكسر القاف ، سمي به لأنه يقطف ، كما سمي الجنى لأنه يجنى .

تذليلا تأكيد لما وصف به من الذل ; كقوله : ونزلناه تنزيلا وكلم الله موسى تكليما . الماوردي : ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها ، وتخلص لهم من نواها .

قلت : وفي هذا بعد ; فقد روى ابن المبارك ، قال : أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ليس فيه عجم . قال أبو جعفر النحاس : ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه . ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته ، ويقال المذلل المسوى ; لأن أهل الحجاز يقولون : ذلل نخلك أي سوه ، ويقال المذلل القريب المتناول ، من قولهم : حائط ذليل أي قصير . قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس :


[ وكشح لطيف كالحديل مخصر ]     وساق كأنبوب السقي المذلل

التالي السابق


الخدمات العلمية