الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      4728 حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس النسائي المعنى قالا حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حرملة يعني ابن عمران حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها إلى قوله تعالى سميعا بصيرا قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه قال أبو هريرة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع إصبعيه قال ابن يونس قال المقرئ يعني إن الله سميع بصير يعني أن لله سمعا وبصرا قال أبو داود وهذا رد على الجهمية [ ص: 33 ]

                                                                      التالي السابق


                                                                      [ ص: 33 ] ( والتي تليها ) أي تلي الإبهام ، يعني السبابة ( قال ابن يونس ) هو محمد ( قال المقري ) هو عبد الله بن يزيد ( وهذا ) أي هذا الحديث ( رد على الجهمية ) لأنه يثبت منه صفة السمع والبصر لله تعالى .

                                                                      [ ص: 34 ] قال الإمام الخطابي في معالم السنن : وضعه إصبعيه على أذنه وعينه عند قراءته سميعا بصيرا معناه إثبات صفة السمع والبصر لله سبحانه ، لا إثبات العين والأذن لأنهما جارحتان ، والله - سبحانه - موصوف بصفاته منفي عنه ما لا يليق به من صفات الآدميين ونعوتهم ، ليس بذي جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض ليس كمثله شيء وهو السميع البصير انتهى .

                                                                      ورد عليه بعض العلماء فقال قوله لا إثبات العين والأذن إلخ ليس من كلام أهل التحقيق ، وأهل التحقيق يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ، ولا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة ، وقد قال تعالى : ولتصنع على عيني وقال : تجري بأعيننا .

                                                                      [ ص: 35 ] وقوله ليس بذي جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض كلام مبتدع مخترع لم يقله أحد من السلف ، لا نفيا ولا إثباتا ، بل يصفون الله بما وصف به نفسه ، ويسكتون عما سكت عنه ، ولا يكيفون ولا يمثلون ولا يشبهون الله بخلقه ، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله تشبيها . وإثبات صفة السمع والبصر لله حق كما قرره الشيخ . انتهى كلامه .

                                                                      قلت : ما قاله هو الحق وما قال الخطابي فهو ليس من كلام أهل التحقيق .

                                                                      وعليك أن تطالع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وإعلام الموقعين ، واجتماع الجيوش ، والكافية الشافية ، والصواعق المرسلة ، وتهذيب السنن كلها لابن القيم رحمه الله ، وكتاب العلو للذهبي ، وغير ذلك من كتب المتقدمين والمتأخرين والحديث سكت عنه المنذري .

                                                                      [ ص: 36 ] فائدة : قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : أخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن أم سلمة أنها قالت : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر .

                                                                      ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش فقال : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، وعلى الله الرسالة ، وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم " .

                                                                      وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال : كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته .

                                                                      [ ص: 37 ] وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى : ثم استوى على العرش فقال : هو كما وصف نفسه .

                                                                      وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال : كنا عند مالك فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه ، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة ، أخرجوه .

                                                                      [ ص: 38 ] وفي رواية عن مالك : والإقرار به واجب والسؤال عنه بدعة .

                                                                      وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال : كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ، ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف قال أبو داود وهو قولنا . قال البيهقي : وعلى هذا مضى أكابرنا .

                                                                      وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير ، فمن فسر شيئا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وفارق الجماعة لأنه وصف الرب بصفة لا شيء .

                                                                      [ ص: 39 ] ومن طريق الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكا والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف .

                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن الشافعي يقول : لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال : ليس كمثله شيء .

                                                                      وأسند البيهقي عن أبي بكر الضبعي قال : مذهب أهل السنة في قوله : الرحمن على العرش استوى قال بلا كيف . والآثار فيه عن السلف كثيرة . وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل .

                                                                      وقال الترمذي : في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه ، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات .

                                                                      [ ص: 40 ] وقال في باب فضل الصدقة : قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ، ولا يقال كيف كذا ، جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمروها بلا كيف ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة . وأما الجهمية فأنكروها وقالوا هذا تشبيه . وقال إسحاق بن راهويه إنما يكون التشبيه لو قيل يد كيد وسمع كسمع .

                                                                      وقال في تفسير المائدة : قال الأئمة نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير ، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك .

                                                                      [ ص: 41 ] وقال ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئا منها ، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا من أقر بها فهو مشبه .

                                                                      وقال إمام الحرمين : اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر ، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن ، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة ، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع . انتهى .

                                                                      وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث ، وهم فقهاء الأمصار ، كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم ، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة ، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة . انتهى كلام الحافظ رحمه الله .




                                                                      الخدمات العلمية