الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        باب التمتع ( التمتع أفضل من الإفراد عندنا ) وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الإفراد أفضل ; لأن المتمتع سفره واقع لعمرته والمفرد سفره واقع لحجته . وجه ظاهر الرواية أن في التمتع جمعا بين العبادتين فأشبه القران ، ثم فيه زيادة نسك وهي إراقة الدم وسفره واقع لحجته ; وإن تخللت العمرة ; لأنها تبع للحج كتخلل السنة بين الجمعة والسعي إليها ( والمتمتع على وجهين متمتع يسوق الهدي ومتمتع لا يسوق الهدي ) ومعنى التمتع الترفق بأداء النسكين في سفر واحد من [ ص: 215 ] غير أن يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا ويدخله اختلافات نبينها إن شاء الله تعالى ( وصفته أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج فيحرم بالعمرة ويدخل مكة فيطوف لها ويسعى ويحلق أو يقصر وقد حل من عمرته ) وهذا هو تفسير العمرة ، وكذلك إذا أراد أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا هكذا فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء . وقال مالك رحمه الله : لا حلق عليه إنما العمرة الطواف والسعي ، وحجتنا عليه ما روينا وقوله تعالى: { محلقين رءوسكم }الآية نزلت في عمرة القضاء ، ولأنها لما كان لها تحرم بالتلبية كان [ ص: 216 ] لها تحلل بالحلق كالحج ( ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف ) وقال مالك رحمه الله كما وقع بصره على البيت ; لأن العمرة زيارة البيت وتتم به . ولنا { أن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم [ ص: 217 ] الحجر } ، ولأن المقصود هو الطواف فيقطعها عند افتتاحه ولهذا يقطعها الحاج عند افتتاح الرمي ، قال : ( ويقيم بمكة حلالا ) ; لأنه حل من العمرة .

                                                                                                        قال : ( فإذا كان يوم التروية أحرم بالحج من المسجد ) والشرط أن يحرم من الحرم . أما المسجد فليس بلازم ، وهذا ; لأنه في معنى المكي ، وميقات المكي في الحج الحرم على ما بينا ( وفعل ما يفعله الحاج المفرد ) ; لأنه مؤد للحج إلا أنه يرمل في طواف الزيارة ، ويسعى بعده ; لأن هذا أول طواف له في الحج بخلاف المفرد ; لأنه قد سعى مرة ، ولو كان هذا المتمتع بعدما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة ولا يسعى بعده ; لأنه قد أتى بذلك مرة ( وعليه دم التمتع ) للنص الذي تلوناه .

                                                                                                        ( فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) على الوجه الذي بيناه في القران ( فإن صام ثلاثة أيام من شوال ثم اعتمر لم يجزه عن الثلاثة ) ; لأن سبب وجوب هذا الصوم التمتع ; لأنه بدل عن الهدي ، وهو في هذه الحالة غير متمتع ، فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه ( وإن صامها ) بمكة ( بعدما أحرم بالعمرة قبل أن يطوف جاز عندنا ) خلافا للشافعي رحمه الله . له قوله تعالى: { فصيام ثلاثة أيام في الحج }ولنا أنه أداء بعد انعقاد سببه ، والمراد بالحج المذكور في النص وقته على ما بينا ( والأفضل تأخيرها إلى آخر وقتها ، وهو يوم عرفة ) لما بينا في القران .

                                                                                                        [ ص: 214 ]

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        [ ص: 214 ] باب التمتع

                                                                                                        الحديث الأول : قال المصنف رحمه الله : وصفة التمتع أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج ، فيحرم بالعمرة ، ويدخل مكة فيطوف بها ، ويسعى ويحلق ، أو يقصر ، وقد حل من عمرته ، وهذا هو تفسير العمرة ، وكذلك إذا أراد أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا ، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء ، وقال مالك : لا حلق عليه ، وإنما العمرة الطواف والسعي . وحجتنا عليه ما ذكرناه ; قلت : أخرج البخاري ، ومسلم عن ابن عمر ، قال : { تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس [ ص: 215 ] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج ، وليهد ، فمن لم يجد هديا ، فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة ، فاستلم الركن أول شيء ، ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ، ومشى أربعة أطواف ، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ، ثم سلم ، فانصرف ، فأتى الصفا ، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر ، وأفاض فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه ، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه البخاري عن نافع ، قال : { أراد ابن عمر الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير ، فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال ، ونخاف أن يصدوك ، فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، إذن أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدكم أني قد أوجبت عمرة حتى إذا كان بظاهر البيداء ، قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ، أشهدكم أني جمعت حجة مع عمرة ، وأهدى هديا مقلدا اشتراه ، حتى قدم فطاف بالبيت وبالصفا ، ولم يزد على ذلك ، ولم يحل من شيء حرم منه حتى يوم النحر ، فحلق ونحر ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، ثم قال : هكذا صنع [ ص: 216 ] النبي عليه السلام }انتهى .

                                                                                                        والاستشهاد بهذا الحديث أولى من الحديث الذي قبله ، فإن المصنف رحمه الله احتج به على مالك في وجوب الحج على المعتمر .

                                                                                                        ومن أحاديث الباب : ما أخرجه البخاري عن ابن عباس ، قال : { لما قدم النبي عليه السلام مكة أمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم يحلوا ويحلقوا ، أو يقصروا }انتهى .

                                                                                                        وأخرج البخاري ، ومسلم { عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : قصرت عن النبي على المروة ، أو رأيته يقصر عنه على المروة بمشقص } ، انتهى .

                                                                                                        قال المنذري في " حواشيه " : قوله : قصرت ، يحتج به من يقول : إنه عليه السلام كان في حجة الوداع متمتعا ; لأن المعتمر يقصر عند الفراغ من السعي ، وهذا لا يصح أن يكون في حجة الوداع ; لأنه عليه السلام حلق رأسه في حجة الوداع بلا خلاف ، كما ورد في " الصحيحين " ; وقيل : إنما كان هذا في بعض عمره عليه السلام ، قيل : ولا يصح هذا ، إلا أن يكون في عمرة الجعرانة ; لأن الصحيح أن معاوية أسلم يوم فتح مكة مع أبيه ، فأما الرواية الأخرى : رأيته يقصر عنه ، فلا يصح أن يكون في حجة الوداع ، ويصح أن يكون فيما تقدم من عمره عليه السلام ، وأما لفظ الحديث عند أبي داود { أن معاوية قال لابن عباس : أما علمت أني قصرت عن رسول الله بمشقص أعرابي على المروة لحجته }; فمعنى قوله : لحجته ، أي لعمرته ، ففي لفظ النسائي { في عمرة على المروة } ، والعمرة قد تسمى حجا ; لأن معناها القصد ، وقد قال النبي عليه السلام : { ما بال الناس حلوا وأنت لم تحلل من عمرتك ؟ }قيل : تريد من حجتك ، والله أعلم انتهى كلامه .

                                                                                                        الحديث الثاني : روي { أنه عليه السلام قطع التلبية في عمرة القضاء حين استلم الحجر الأسود }; قلت : أخرجه الترمذي عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس { أن النبي عليه السلام [ ص: 217 ] كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر }انتهى .

                                                                                                        وقال : حديث صحيح ; ورواه أبو داود ، ولفظه : أن النبي عليه السلام قال : { يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر }انتهى .

                                                                                                        قال أبو داود : رواه عبد الملك بن أبي سليمان ، وهمام عن عطاء عن ابن عباس موقوفا انتهى .

                                                                                                        وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفيه مقال ، [ ص: 218 ] ولم ينصف المنذري في عزوه هذا الحديث للترمذي ، فإن لفظ الترمذي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ أبي داود من قوله ، فهما حديثان ، ولكنه قلد أصحاب " الأطراف " إذ جعلوها حديثا واحدا ، وهذا مما لا ينكر عليهم ; وقد بينا وجه ذلك في حديث : { ابدءوا بما بدأ الله به }; وروى الواقدي في " كتاب المغازي " حدثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن النبي عليه السلام لبى يعني في عمرة القضية حتى استلم الركن }انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية