الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثاني في أحكام الصرف ، وهي سبعة : الأول ، في ( الكتاب ) : إن وجد الأصناف كلها آثر أهل الحاجة من غير تحديد ، قال سند : إن استوت الحاجة : قال مالك : يؤثر الأدين ولا يحرم غيره . وكان عمر - رضي الله عنه - يؤثر أهل الحاجة ويقول : الفضائل الدينية لها أجور في الآخرة . والصديق - رضي الله عنه - يؤثر بسابقة الإسلام والفضائل الدينية ; لأن إقامة بنية الأبرار أفضل من إقامة بنية غيرهم ، لما يترتب على بقائها من المصالح . وإذا أعطي المحتاج : فروى ابن نافع ذلك غير محدود ، ويعطيه قوت سنة بقدر المقسوم ، وقد تقل المساكين وتكثر . وروى المغيرة : لا يعطى نصابا ، وقاله ( ح ) ; لأن الدفع لوصف الفقراء فلا يخرج به عنه . وعلى الأول : يعطيه قوت السنة ، وإن اتسع المال زاده ثمن العبد ومهر الزوجة . وفي ( الجواهر ) : يعطى الغارم قدر دينه ، والفقير والمسكين كفايتهما وكفاية عيالهما ، والمسافر قدر ما يوصله إلى مقصده أو موضع ماله ، والغازي ما يقوم به حالة الغزو ، والمؤلفة بالاجتهاد ، والعامل أجرة مثله . ومن جمع وصفين استحق سهمين .

                                                                                                                [ ص: 150 ] وقال القاضي أبو الحسن : بل بالاجتهاد . قال سند : قال ابن القاسم : يعطى منها العامل بقدر كثرة ماله وقلته ، وكثرة المتحصل وقلته ، وعمله وصف يستحق به كالفقر ; لأنها أجرة ، فإن كان ذميا أعطي من غيرها . وقال ابن الجلاب : يدفع إليهم أجرة معلومة منها بقدر عملهم ، ولا يجوز أن يستأجروا بجزء منها للجهالة بقدره . قال : فنحا بها منحى الإجارة ، وهو خلاف المشهور .

                                                                                                                الحكم الثاني في الترتيب : قال اللخمي : يبدأ بالعاملين ; لأنهم كالأجراء ، ثم الفقراء والمساكين على العتق ; لأن سد الخلة أفضل ، ولأنه حق للأغنياء ليلا تجب عليهم المواساة مرة أخرى . وإذا وجدت المؤلفة قلوبهم قدموا ; لأن الصون عن النار مقدم على الصون عن الجوع ، كما يبدأ الغزو إن خشي على الناس ، وابن السبيل إن كان يلحقه ضرر قدم على الفقير ; لأنه في وطنه .

                                                                                                                الحكم الثالث في الإثبات . وفي ( الجواهر ) : ما خفي من هذه الصفات كالفقر والمسكنة : من ادعاه صدق ، ما لم يشهد ظاهره بخلافه ، أو يكون من أهل الموضع ويمكن الكشف عنه فيكشف ، والغازي معلوم بفعله ، فإن أعطي بقوله ولم يوف استرد ، ويطالب الغارم بالبينة على الدين والعسر إن كان عن مبايعة إلا إذا كان عن طعام أكله ، وابن السبيل يكتفى فيه بهيئة الفقر .

                                                                                                                الحكم الرابع ، مباشرتها ، في ( الكتاب ) : لا يعجبني أن يلي أحد صدقة نفسه خوف المحمدة ، وليدفعها لمن يثق به فيقسمها ، وقال ( ش ) : أحب إلي أن يتولاها قياسا على الأضحية ، وليتقن أداءها ، وفي ( الجواهر ) : إذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسع المالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غيره ، بل الإمام ، لاحتياجها إلى الاجتهاد في تعيين الأصناف ، وتحقيق صفاتهم وشروطهم ، وتعيين البلدان في الحاجات ، وهي أمور لا يطلع عليها إلا الولاة [ ص: 151 ] غالبا ، وأما الحرث والماشية فيبعث الإمام فيها ، وقيل : زكاة الناض إلى أربابه ، قال عبد الملك : ذلك إذا لم يكن المصرف الفقراء والمساكين خاصة ، لاحتياج غيرهما إلى الاجتهاد ، وحيث قلنا : يليها ربها ، فالأفضل له أن يوليها غيره ، إلا أن يجهل أحكامها فيجب ، وإذا كان الإمام جائرا لم يجز دفعها له ، قال اللخمي : إذا كان الإمام مشغولا تولى الناس الحرث والعين ، وانتظروا بالماشية الإمام ، وفيه خلاف ، قال سند : ولمفرقهما أن يأخذ منها بالمعروف إن كان أهلا .

                                                                                                                الحكم الخامس ، في الخطأ فيها ، قال سند : إن دفعها لكافر أو عبد أو غني ولم يعلم ، فإن كان الإمام لم يضمن ، لأنه عليه بالاجتهاد وقد فعله ، أو رب المال ، فظاهر ( الكتاب ) : لا يجزئه ، وقال ابن القاسم : لا ضمان عليه ، وفرق بعض الناس بين الكافر والعبد ، فلا يجزئ لاشتهارهما غالبا ، وبين الغني فيجزئ ; لأن الرجل قد يكتم غناه كثيرا في الناس ، ويحرم الدفع لأهل الأهواء وتارك الصلاة على الخلاف في تكفيرهم ، وجوز ( ح ) الدفع للذمي ، لنا : قوله عليه السلام لمعاذ : ( فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ) فالظاهر اختصاص الفقراء بالمأخوذ منهم ، قال اللخمي : إن كان عالما بالغني أو بالذمي أو العبد لم يجزه ، وإن لم يعلم وهي قائمة انتزعت ، وإن أكلوها غرموها على المستحسن من القول ; لأنهم صانوا بها أموالهم ، وإن هلكت بأمر من الله تعالى وكانوا غروا من أنفسهم غرموا وإلا فلا ، ثم يختلفوا في تغريم من وجبت عليه وكذلك الإمام ، قال أبو الطاهر : فإن دفعها لمستحقها ، ثم زال سبب الاستحقاق كابن السبيل لا ينفقها حتى يصل إلى موضعه ، أو يصله ماله ، والغازي يقعد عن الغزو انتزعت ، وتردد اللخمي في الغارم يسقط دينه ، أو نؤديه من غيرها ، قال [ ص: 152 ] صاحب ( تهذيب الطالب ) : إن استهلكها العبد : هل تكون جناية في رقبته أم لا لأنه متطوع ؟ فيه خلاف ، فإن دفع لمسلم ما لا يجزئ كالعوض رجع إن كان قائما ولا يرجع إن فات ; لأنه ظالم مسلط له عليه ، أما لو لم يبين أنها زكاة حملت على التطوع ولا رجوع له .

                                                                                                                الحكم السادس : تفريقها بغير بلدها ، وفي ( الكتاب ) : من حال عليه الحول بغير بلده زكى ما معه وما خلف ببلده ، وكذلك إذا كان الجميع ببلده إلا أن يخشى الحاجة على نفسه ولا يجد سلفا ، وقد كان يقول : يقسم ببلده ، واستحبه أشهب ، إلا أن يكون بموضع حاجة ، فإن خشي أنها تؤدى عنه ببلده : فليس عليه ذلك ، ولا يدفع الإمام منها شيئا إلى بيت المال ، وتنفذ الزكاة بموضع وجبت إن أمكن ، وإلا نقلها لأقرب البلاد إليهم ; لتعلق آمال فقراء كل بلد بأغنياء أهلها ، فإن بلغه حاجة عن غير بلده ، أعطى منه أهل بلده ، ثم نقله إلى بلد الحاجة ، قال سند : إن كان موضع الزكاة ليس فيه مستحق نقلت للأقرب إليه لخفة المؤنة ، وإن كان فيه مستحق لكن حاجة غيره أشد ، نقلها كما نقل عمر - رضي الله عنه - زكاة مصر إلى الحجاز ، وإن لم تكن حاجة غيره أشد : فقول ( ح ) و ( ش ) وغير المشهور عن مالك : النقل ، ( وحيث قلنا بعدم النقل ) ، قد استثنى ابن القاسم الموضع القريب ، وإذا قلنا : لا تنقل فنقل فضاعت فإن كان الإمام : لم يضمن ; لأنه موضع اجتهاد ، وإن كان رب المال : ضمن ، وحيث قلنا بجواز النقل ، فالأظهر إرسالها بعد الحول ، ولا يضمن إن تلفت ، وفي ( الجواهر ) : نقل الصدقة عن موضع وجوبها - وهو البلد الذي فيه المال والمالك والمستحقون - غير جائز ، فإن فعل كره وأجزأ ، وقال سحنون : لا يجزئ ، فإن افترق المال والمالك فهل يعتبر مكان المال عند تمام الحول فتفرق الصدقة عنده إذ هو سبب الوجوب ، أو مكان المالك إذ هو المخاطب بها فيخرجها حيث هو ؟ قولان ، وأما صدقة الفطر : فإنها ينظر فيها إلى موضع المالك فقط ، وحيث قلنا : ينقلها ، فروى ابن القاسم : أن الإمام يتكارى عليها [ ص: 153 ] من الفيء ، وقال ابن القاسم : لا يتكارى ولكن يبيعها ثم يشتري مثلها بالموضع ، وفي ( العتبية ) : من ليس بموضعه مساكين حملها من عنده حتى تصل إلى المساكين .

                                                                                                                الحكم السابع ، في ( الكتاب ) : لا يخرج في زكاته إسقاط دينه عن الفقير ; لأنه مستهلك عند الفقير ، قال سند : فإن فعل : فقال ابن القاسم : لا يجزئه ، وقال أشهب : يجزئه بمنزلة الدفع للغارم بجامع السبب لبراءة الذمة .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية