الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        قلت : ومن الأحوال التي لا يسلم فيها حالة الأذان والإقامة والخطبة على خلاف وتفصيل سبق فيها ، وأما المشتغل بقراءة القرآن ، فقال أبو الحسن الواحدي المفسر من أصحابنا : الأولى ترك السلام عليه ، قال : فإن سلم ، كفاه الرد بالإشارة ، وإن رد باللفظ ، استأنف الاستعاذة ، ثم يقرأ ، وفيما قاله نظر ، والظاهر أنه يسلم عليه ويجب الرد باللفظ ، وأما الملبي في الإحرام فيكره السلام عليه ، فإن سلم ، رد عليه لفظا ، نص عليه ، وقد سبق في الحج ، ولو سلم في هذه المواضع التي لا يستحق فيها جوابا ، هل يشرع الرد ؟ فيه تفصيل ، أما المشتغل بالبول والجماع ونحوهما ، فيكره له الرد كما سبق في باب الاستطابة ، وأما الأكل ومن في الحمام ، فيستحب له الرد ، وأما المصلي ، فيسن له الرد إشارة كما سبق . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 233 ] الرابعة عشرة : التحية بالطلبقة وهي : أطال الله بقاك ، وحني الظهر ، وتقبيل اليد لا أصل له في الشرع ، لكن لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها ، ولا يكره تقبيل اليد لزهد وعلم وكبر سن ، وتسن المصافحة ، ويكره للداخل أن يطمع في قيام القوم ، ويستحب لهم أن يكرموه ، ويسن تشميت العاطس وهو سنة على الكفاية كما سبق في ابتداء السلام ، وإنما يسن إذا قال العاطس : الحمد لله ، والتشميت أن يقول : يرحمك الله ، أو يرحمك ربك ، ويكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يعلم أنه مزكوم ، فيدعو له بالشفاء ، ويسن للعاطس أن يجيب المشمت ، فيقول : يهديكم الله ، أو يغفر الله لكم ، ولا يجب ذلك ، وتسن عيادة المريض وزيارة القادم ومعانقته .

                                                                                                                                                                        قلت : قد اختصر الإمام الرافعي الكلام في السلام وما يتعلق به ، وقد جمعت فيه في كتاب " الأذكار " جملا نفيسة موضحة بدلائلها من الأحاديث الصحيحة مع آيات من القرآن العزيز ، وضممت إليها مهمات متعلقة بما لا يستغني راغب في الخير عن معرفة مثلها ، وقد خللت بعضها فيما سبق ، وأنا أرمز إلى جملة من الباقي إن - شاء الله تعالى - فمن ذلك ، السنة أن يرفع صوته بالسلام رفعا يسمعه المسلم عليهم سماعا محققا ، ولا يزيد رفعه على ذلك ، وإذا شك في سماعهم ، زاد في الرفع واستظهر ، وإن سلم على أيقاظ عندهم نيام ، خفض صوته بحيث يسمع الأيقاظ ولا يوقظ النيام ، ثبت ذلك في صحيح مسلم عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والإشارة بالسلام باليد ونحوها بلا لفظ خلاف الأولى ، فإن جمع بين الإشارة واللفظ ، فحسن وعليه يحمل حديث الترمذي وهو حديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألوى بيده بالتسليم ، ويستحب أن يرسل سلامه إلى من غاب عنه ، ويلزم [ ص: 234 ] الرسول أن يبلغه ، فإنه أمانة ويجب أداء الأمانة ، وقد سبق أنه يلزم المرسل إليه رد السلام على الفور ، ويستحب أن يرد على المبلغ أيضا ، فيقول : وعليه وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، ولو سلم على إنسان ، ثم لقيه على قرب ، فالسنة أن يسلم عليه ثانيا وثالثا وأكثر ، والسنة أن يبدأ بالسلام قبل كل كلام ، والأحاديث الصحيحة وعمل الأمة على وفق ذلك مشهور ، وأما حديث السلام قبل الكلام فضعيف ، ويستحب لكل واحد من المتلاقين أن يحرص على الابتداء بالسلام للحديث الحسن : " أولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام " ولو مشى في سوق ، أو شارع يطرق كثيرا ، ونحوه مما يكثر فيه المتلاقون ، قال صاحب " الحاوي " : إنما يسلم هنا على بعض الناس دون بعض ؛ لأنه لو سلم على الجميع ، تعطل عن كل مهم ، وخرج به عن العرف ، قال : ولو دخل على جماعة قليلة يعمهم سلام ، اقتصر على سلام واحد عليهم ، وما زاد من تخصيص بعضهم ، فهو أدب ، ويكفي أن يرد أحدهم ، فإن زادوا ، فأفضل ، فإن كانوا جميعا لا ينتشر فيهم سلام واحد ، كالجامع والمجلس الحفل ، فسنة السلام أن يبدأ به إذا شاهدهم ، ويكون مؤديا سنة السلام في حق من سمعه ، ويدخل في فرض الكفاية في الرد كل من سمعه ، فإن جلس فيهم ، سقط عنه سنة السلام في حق من لم يسمع ، وإن أراد الجلوس فيمن بعدهم ممن لم يسمعه فوجهان ، أحدهما : أن سنة السلام حصلت بالسلام على أولهم ؛ لأنه جمع واحد ، فإن أعاد السلام عليهم ، كان أدبا ، والثاني : أنها باقية لم تحصل ، قال : فعلى الأول يسقط فرض الرد عن الأولين برد واحد من الآخرين ، وعلى الثاني لا يسقط ، ولعل الثاني أصح ، ولا يترك السلام لكونه يغلب على ظنه أن المسلم عليه لا يرد .

                                                                                                                                                                        قال المتولي : وأما التحية عند خروجه من الحمام بقول : طاب [ ص: 235 ] حمامك ونحوه ، فلا أصل له ، وهو كما قال ، فلم يصح في هذا شيء ، لكن لو قال لصاحبه حفظا لوده : أدام الله لك هذا النعيم ، ونحو ذلك من الدعاء ، فلا بأس به - إن شاء الله تعالى - وإذا ابتدأ المار فقال : صبحك الله بخير ، أو بالسعادة ، أو قواك الله ، أو لا أوحش الله منك ، أو نحو ذلك من ألفاظ أهل العرف ، لم يستحق جوابا ، لكن لو دعا له قبالته كان حسنا إلا أن يريد تأديبه وتأديب غيره لتخلفه وإهماله السلام .

                                                                                                                                                                        وإذا قصد باب إنسان وهو مغلق ، فالسنة أن يسلم ، ثم يستأذن فيقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فإن لم يجبه أحد ، أعاد ذلك ثانيا وثالثا ، فإن لم يجبه أحد ، انصرف . وذكر صاحب " الحاوي " خلافا في تقديم السلام على الاستئذان وعكسه ، واختار مذهبا ثالثا ، فقال : إن وقعت عين المستأذن على صاحب البيت قبل دخوله ، قدم السلام ، وإن لم تقع عليه عينه ، قدم الاستئذان ، والصحيح المختار تقديم السلام ، فقد صحت فيه أحاديث صريحة ، وإذا استأذن بدق الباب ونحوه ، فقيل : من أنت ؟ فليقل : فلان ابن فلان ، أو فلان الفلاني ، أو المعروف بكذا وما أشبهه بحيث يحصل تعريف تام ، ويكره أن يقتصر على قوله : أنا ، أو الخادم ، أو المحب ، أو نحو ذلك مما لا يعرف به ، والحديث الصحيح في ذلك مشهور ، ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف به وإن تضمن تبجيلا له إذا لم يعرفه المخاطب إلا به ، بأن يكني نفسه ، أو يقول : القاضي فلان ، أو الشيخ فلان أو نحوه .

                                                                                                                                                                        وأما قول الرافعي : إذا قال : أطال الله بقاءك إلى آخره ، فيحتاج فيه إلى تتمات ، فأما أطال الله بقاءك ، فقد نص جماعة من السلف على كراهته ، وأما حني الظهر فمكروه للحديث الصحيح في النهي عنه ، ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن ينسب إلى علم وصلاح .

                                                                                                                                                                        [ ص: 236 ] وأما القيام ، فالذي نختاره أنه مستحب لمن فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو ولادة أو ولاية مصحوبة بصيانة ، ويكون على جهة البر والإكرام لا للرياء والإعظام ، وعلى هذا استمر عمل الجمهور من السلف والخلف ، وقد جمعت جزءا في ذلك ضمنته أحاديث صحيحة وآثارا وأفعال السلف وأقوالهم الدالة لما ذكرته ، وأجبت عما خالفها ، وأما الداخل فيحرم عليه أن يحب قيامهم له ، ففي الحديث الحسن : " من أحب أن يمثل له الناس قياما ، فليتبوأ مقعده من النار " وهذا ظاهر في التحريم ، وقد روي بألفاظ أوضحتها مع معناه وما يتعلق به في جزء الترخيص في القيام ، وأما قوله : لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها ، فلا نوافق عليه .

                                                                                                                                                                        وأما تقبيل اليد ، فإن كان لزهد صاحب اليد وصلاحه ، أو علمه أو شرفه وصيانته ونحوه من الأمور الدينية ، فمستحب ، وإن كان لدنياه وثروته وشوكته ووجاهته ونحو ذلك ، فمكروه شديد الكراهة ، وقال المتولي : لا يجوز ، وظاهره التحريم ، وأما تقبيله خد ولده الصغير وبنته الصغيرة وسائر أطرافه على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة ، فسنة ، والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة مشهورة ، وكذا قبلة ولد صديقه وغيره من الأطفال الذين لا يشتهون على هذا الوجه ، وأما التقبيل بشهوة فحرام بالاتفاق ، وسواء في ذلك الوالد وغيره ، بل النظر إليه بالشهوة حرام على الأجنبي والقريب بالاتفاق ، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك .

                                                                                                                                                                        وسن تقبيل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه ، ومعانقته للحديث الصحيح فيهما ، وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير القادم من سفر ونحوه ، فمكروهان ، صرح به البغوي وغيره للحديث الصحيح [ ص: 237 ] في النهي عنهما ، وأما المصافحة ، فسنة عند التلاقي ، سواء فيه الحاضر والقادم من سفر ، والأحاديث الصحيحة فيها كثيرة جدا ، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر ، فلا أصل لتخصيصه ، لكن لا بأس به ، فإنه من جملة المصافحة ، وقد حث الشرع على المصافحة ، وجعله الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام من البدع المباحة ، ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها .

                                                                                                                                                                        ويسن زيارة الصالحين والإخوان والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم ، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم ، وينبغي أن تكون زيارته على وجه يرتضونه وفي وقت لا يكرهونه ، ويستحب أن يطلب من أخيه الصالح أن يزوره ، وأن يكثر زيارته إذا لم يشق ، وأما العاطس ، فيسن له أن يقول : الحمد لله ، وإن كان في صلاة قاله وأسمع نفسه ، ولو قال : الحمد لله على كل حال ، كان أفضل ، ففيه حديث صحيح ، ويسن بمن جاءه العطاس ، أن يضع يده أو ثوبه ونحوه على وجهه ، ويخفض صوته ، وتشميته إلى ثلاث مرات ، فإن زاد ، دعا له بالشفاء ، ولا يشمته حتى يسمع تحميده ، وأقل التشميت وجوابه أن يسمعه ، ولو قال لفظا آخر غير الحمد لله ، لم يشمت ، ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا عطس أحدكم فحمد الله تعالى ، فشمتوه ، فإن لم يحمد الله تعالى ، فلا تشمتوه " وهذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشاعته ، فإن كثيرا من الناس يتساهلون فيه ، وإذا لم يحمد الله تعالى ، يستحب لمن عنده أن يذكره الحمد ، ولو سمع حمده بعض القوم ، يشمته السامعون فقط ، ولو عطس يهودي ، فليقل : يهديكم الله ، ولا يقل : يرحمكم الله ، ففيه [ ص: 238 ] حديث صحيح ، ولو تثاءب ، فالسنة أن يرده ما استطاع ، وأن يضع يده على فمه ، ثبت ذلك في صحيح مسلم ، وسواء كان في صلاة أو غيرها ، ويستحب إجابة من ناداه ، بلبيك ، وأن يقول لمن ورد عليه : مرحبا ، وأن يقول لمن أحسن إليه : جزاك الله خيرا ، أو حفظك الله ونحوهما ، ويسن لمن أحب أخا له في الله تعالى أن يخبره أنه يحبه ، وهذا الباب واسع جدا ، وفيما ذكرته مقنع ، وقد أوضحت جميع ذلك بدلائله الصحيحة المتظاهرة في كتاب " الأذكار " وفيه ما لا يستغنى عن مثله من أشباهه ، وإنما بسطت هذا الفصل على خلاف العادة ؛ لأنه أحكام وسنن تدعو الحاجة إليها ، ويكثر العمل بها ، فهي أولى من نوادر المسائل التي لا تقع في العادة ، وأسأل الله الكريم التوفيق للخيرات . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية