الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في مسائل تتعلق بالباب .

                                                                                                                                                                        إحداها : الثمن المعين إذا خرج معيبا ، يرد بالعيب كالمبيع . وإن لم يكن معيبا استبدل ، ولا يفسخ العقد ، سواء خرج معيبا بخشونة أو سواد أو وجدت [ سكته مخالفة ] سكة النقد الذي تناوله العقد ، أو خرج نحاسا ، أو رصاصا .

                                                                                                                                                                        الثانية : تصارفا وتقابضا ، ثم وجد أحدهما بما قبض خللا ، فله حالان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن يرد العقد على معينين فإن خرج أحدهما نحاسا ، بطل العقد ؛ لأنه بان أنه غير ما عقد عليه . وقيل : إنه صحيح ، تغليبا للإشارة . هذا إن كان له قيمة ، فإن لم يكن لم يجئ هذا الوجه الضعيف . وإن خرج بعضه بهذه الصفة ، لم يصح العقد فيه ، وفي الباقي قولا تفريق الصفة . فإن لم يبطل ، فله الخيار . فإن أجاز والجنس مختلف ، بأن تبايعا ذهبا بفضة ، جاء القولان في أن الإجازة بجميع الثمن أم بالقسط ؟ وإن كان الجنس متفقا ، فالإجازة الحصة قطعا ، لامتناع التفاضل . وإن خرج أحدهم خشنا ، فلمن أخذه الخيار ، ولا يجوز الاستبدال وإن خرج بعضه كذلك ، فله الخيار أيضا . وهل له الفسخ في المعيب ، والإجازة في الباقي ؟ فيه قولا التفريق . فإن جوزنا فالإجازة بالحصة .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يرد على ما في الذمة ، ثم يحضراه ويتقابضا ، فإن خرج أحدهما نحاسا وهما في المجلس ، استبدل . وإن تفرقا ، فالعقد باطل ; لأن المقبوض غير ما عقد عليه . وإن خرج خشنا ، أو أسود ، فإن لم يتفرقا ، فله الخيار بين الرضا به والاستبدال وإن تفرقا ، فهل له الاستبدال ؟ قولان . [ ص: 849 ] أظهرهما : نعم . كالمسلم فيه إذا خرج معيبا ; لأن القبض الأول صحيح ، إذ لو رضي به لجاز . والبدل قائم مقامه ، ويجب أخذ البدل قبل التفرق عن مجلس الرد . وإن خرج البعض كذلك وقد تفرقا ، فإن جوزنا الاستبدال ، استبدل ، وإلا فله الخيار بين فسخ العقد في الكل والإجازة . وهل له الفسخ في ذلك القدر والإجازة في الباقي ؟ فيه قولا التفريق . ورأس مال السلم ، حكمه حكم عوض الصرف . ولو وجد أحد المتصارفين بما أخذه عيبا بعد تلفه ، أو تبايعا طعاما بطعام ، ثم وجد أحدهما بالمأخوذ عيبا بعد تلفه ، نظر ، وإن ورد العقد في معينين ، واختلف الجنسان ، فهو كبيع العرض بالنقد . وإن كان متفقا ، ففيه الخلاف السابق في مسألة الحلي . وإن ورد على ما في الذمة ولم يتفرقا بعد ، غرم ما تلف عنده ويستبدل . وكذا إن تفرقا ، وجوزنا الاستبدال . ولو وجد المسلم إليه برأس مال السلم عيبا بعد تلفه عنده ، فإن كان معينا أو في الذمة وعين وتفرقا ، ولم نجوز الاستبدال ، سقط من المسلم فيه بقدر نقصان العيب من قيمة رأس المال . وإن كان في الذمة وهما في المجلس ، غرم التالف واستبدل . وكذا إن كان بعد التفرق وجوزنا الاستبدال .

                                                                                                                                                                        المسألة الثالثة : باع عبدا بألف ، وأخذ بالألف ثوبا ، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا ورده ، قال القاضي أبو الطيب : يرجع بالثوب ؛ لأنه إنما تملكه بالثمن . وإذا فسخ البيع سقط الثمن فانفسخ بيع الثوب . وقال الجمهور : يرجع بالألف ; لأن الثوب مملوك بعقد آخر . ولو مات العبد قبل القبض وانفسخ البيع ، قال ابن سريج : يرجع بالألف دون الثوب ; لأن الانفساخ بالتلف يقطع العقد ، ولا يرفعه من أصله ، وهو الأصح ، وفيه وجه آخر .

                                                                                                                                                                        الرابعة : باع عصيرا ، فوجد المشتري به عيبا بعدما صار خمرا ، فلا سبيل إلى رد الخمر ، فيأخذ الأرش . فإن تخلل ، فللبائع أن يسترده ولا يدفع الأرش . ولو اشترى ذمي من ذمي خمرا ، ثم أسلما ، وعلم المشتري بالخمر عيبا ، استرد جزءا [ ص: 499 ] من الثمن على سبيل الأرش ، ولا رد . ولو أسلم البائع وحده ، فلا رد أيضا . ولو أسلم المشتري وحده ، فله الرد ، قاله ابن سريج ، وعلل بأن المسلم لا يتملك الخمر ، بل نزيل يده عنها .

                                                                                                                                                                        الخامسة : مؤنة رد المبيع بعد الفسخ بالعيب ، على المشتري ، ولو هلك في يده ، ضمنه .

                                                                                                                                                                        السادسة : اختلفا في الثمن بعد رد المبيع ، فالصحيح : أن القول قول البائع ؛ لأنه غارم ، كما لو اختلفا في الثمن بعد الإقالة . وقيل : يتحالفان وتبقى السلعة في يد المشتري ، وله الأرش على البائع ، قاله ابن أبي هريرة . فقيل له : إذا لم يعرف الثمن ، كيف يعرف الأرش ؟ فقال : أحكم بالأرش من القدر المتفق عليه .

                                                                                                                                                                        السابعة : لو احتيج إلى الرجوع بالأرش ، فاختلفا في الثمن ، فالقول قول البائع على الأظهر . وعلى الثاني : قول المشتري . الثامنة : أوصى إلى رجل ببيع عبده أو ثوبه وشراء جارية بثمنه وإعتاقها ، ففعل الوصي ذلك ، ثم وجد المشتري بالبيع عيبا ، فله رده على الوصي ومطالبته بالثمن ، كما يرد على الوكيل ، ثم الوصي يبيع العبد المردود ، ويدفع الثمن إلى المشتري . ولو فرض الرد بالعيب على الوكيل ، فهل للوكيل بيعه ثانيا ؟ وجهان . أحدهما : نعم ، كالوصي . وأصحهما : لا ; لأن هذا ملك جديد فاحتاج إلى إذن جديد ، بخلاف الإيصاء ، فإنه تولية وتفويض كلي . ولو وكله في البيع بشرط الخيار للمشتري ، فامتثل ورد المشتري ، فإن قلنا : ملك البائع لم يزل ، فله بيعه ثانيا . وإن قلنا : زال وعاد ، فهو كالرد بالعيب . ثم إذا باعه الوصي ثانيا ، نظر ، إن باعه بمثل الثمن الأول ، فذاك . وإن باعه بأقل ، فهل النقص على الوصي ، أو في ذمة الموصي ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : الأول ، وبه قال ابن الحداد ؛ لأنه إنما أمره بشراء الجارية بثمن العبد ، [ ص: 500 ] لا بالزيادة . وعلى هذا ، لو مات العبد في يده بنفس الرد ، غرم جميع الثمن . ولو باعه بأكثر من الثمن الأول ، فإن كان ذلك لزيادة قيمة أو رغبة راغب ، دفع قدر الثمن إلى المشتري ، والباقي للوارث . وإن لم يكن كذلك فقد بان أن البيع الأول باطل ، للغبن . ويقع عتق الجارية عن الوصي إن اشتراها في الذمة ، وإن اشتراها بعين ثمن العبد ، لم ينفذ الشراء ولا الإعتاق ، وعليه شراء جارية أخرى بهذا الثمن وإعتاقها عن الموصي ، هكذا أطلقه الأصحاب ، ولا بد فيه من تقييد وتأويل ; لأن بيعه بالغبن وتسليمه عن علم بالحال ، خيانة . والأمين ينعزل بالخيانة ، فلا يتمكن من شراء جارية أخرى .

                                                                                                                                                                        قلت : ليس في كلام الأصحاب أنه باع بالغبن عالما ، فالصورة مفروضة فيمن لم يعلم الغبن ، ولا يحتاج إلى تكلف تصويرها في العالم وأن القاضي جدد له ولاية . وهذه مسائل ألحقتها . لو اشترى سلعة بألف في الذمة ، فقضاه عنه أجنبي متبرعا فردت السلعة بعيب ، لزم البائع رد الألف . وعلى من يرد ؟ وجهان . أحدهما : على الأجنبي ؛ لأنه الدافع . والثاني : على المشتري ؛ لأنه يقدر دخوله في ملكه . فإذا رد المبيع ، رد إليه ما قابله ، وبهذا الوجه قطع صاحب المعاياة ذكره في باب الرهن . قال : ولو خرجت السلعة مستحقة ، رد الألف على الأجنبي قطعا ، لأنا تبينا أن لا ثمن ولا بيع .

                                                                                                                                                                        قال أصحابنا : إذا انعقد البيع ، لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد سبعة أسباب : خيار المجلس ، والشرط ، والعيب ، وخلف المشروط المقصود ، والإقالة ، والتحالف ، وهلاك المبيع قبل القبض . قال القفال والصيدلاني ، وآخرون : لو اشترى ثوبا وقبضه وسلم ثمنه ، ثم وجد بالثوب عيبا قديما فرده ، فوجد الثمن معيبا ناقص الصفة بأمر حدث عند البائع - يأخذه ناقصا ولا شيء له بسبب النقص . وفيه احتمال لإمام الحرمين ، ذكره في باب تعجيل الزكاة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 501 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية