الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 162 ] السادسة : الجرح : نسبة ما يرد لأجله القول إلى الشخص ، والتعديل : خلافه . اعتبر قوم بيان السبب فيهما ، ونفاه آخرون ، اعتمادا على الجارح والمعدل ؛ لأنه إن كان خبيرا ضابطا ذا بصيرة قبل منه ، وإلا فلا . أو يطالب بالسبب .

                وعندنا : إنما يعتبر بيانه في الجرح في قول ، لاختلاف الناس فيه ، واعتقاد بعضهم ما ليس سببا سببا . وفي قول : لا . اكتفاء بظهور أسباب الجرح . والجرح مقدم لتضمنه زيادة خفيت عن المعدل ، وإن زاد عدده على عدد الجارح في الأظهر فيه .

                واعتبر العدد فيهما قوم ، ونفاه آخرون . وعندنا : يعتبر في الشهادة دون الرواية ، وإلا لزاد الفرع على الأصل ، إذ التعديل للرواية تبع وفرع لها .

                والمحدود في القذف ، إن كان بلفظ الشهادة قبلت روايته ، إذ عدم كمال نصابها ليس من فعله ، وقد روى الناس عن أبي بكرة . وإلا ردت حتى يتوب .

                وتعديل الراوي : إما بصريح القول ، وتمامه : هو عدل رضى ، مع بيان السبب ، أو بالحكم بروايته ، وهو أقوى من التعديل القولي ، وليس ترك الحكم بها جرحا ، أو بالعمل بخبره إن علم أن لا مستند للعمل غيره ، وإلا فلا ، وإلا لفسق العامل ، وفي كون الرواية عنه تعديلا له قولان ، والحق أنه إن عرف من مذهبه ، أو عادته ، أو صريح قوله ، أنه لا يرى الرواية ، ولا يروي إلا عن عدل ، كانت تعديلا ، وإلا فلا ، إذ قد يروي الشخص عمن لو سئل عنه لسكت . وقوله : سمعت فلانا ، صدق . ولعله جهل حاله ؛ فروى عنه ، ووكل البحث إلى من أراد القبول .

                التالي السابق


                المسألة " السادسة : الجرح : نسبة ما يرد لأجله القول إلى الشخص " .

                هذا الكلام في الجرح والتعديل ، ولا خفاء في مسيس الحاجة إليه في هذا الباب ، ليعلم من ينبغي الأخذ عنه من غيره .

                وحقيقة الجرح - بفتح الجيم - هو القطع في الجسم الحيواني بحديد ، أو ما قام [ ص: 163 ] مقامه ، والجرح - بالضم - هو أثر الجرح - بالفتح - وهو الموضع المقطوع من الجسم ، ثم استعمله المحدثون والفقهاء فيما يقابل التعديل ، مجازا ؛ لأنه تأثير في الدين والعرض ، كما أن الجرح الحقيقي تأثير في الجسم .

                والجرح كما ذكر : هو أن ينسب إلى الشخص ما يرد قوله لأجله ، من فعل معصية كبيرة أو صغيرة ، أو ارتكاب دنيئة .

                وبالجملة ينسب إليه ما يخل بالعدالة التي هي شرط قبول الرواية . وقولنا : إلى الشخص ، هو متعلق بنسبة ، لا بالقول ، وإنما الإضافة منعت الجار والمجرور من أن يلي ما تعلق به ، وهو ظاهر .

                قوله : " والتعديل خلافه " ، أي : خلاف الجرح ؛ فيكون إذن نسبة ما يقبل لأجله قول الشخص ، أي أن ينسب إليه من الخير ، والعفة ، والصيانة ، والمروءة ، والتدين ، بفعل الواجبات ، وترك المحرمات ، ما يسوغ قبول قوله شرعا ، لدلالة هذه الأحوال على تحري الصدق ، ومجانبة الكذب .

                وقولنا : الشخص ، ليعم الذكر والأنثى .

                والتعديل : تفعيل ، من العدالة ، وهي الاعتدال في السيرة شرعا ، بحيث لا إفراط ولا تفريط .

                قوله : " واعتبر قوم بيان السبب فيهما " ، أي اشترط قوم أن يبين الجارح سبب الجرح ، والمعدل سبب التعديل ؛ فيقول مثلا : هو فاسق ؛ لأنه يشرب الخمر ، أو هو عدل لأنه مواظب على فعل الواجبات ، وترك المحرمات ؛ فيما أعلم .

                قوله : " ونفاه آخرون " ، أي : بيان سبب الجرح والتعديل ، نفى اشتراطه [ ص: 164 ] آخرون ؛ فقالوا : لا يشترط ، بل يكفي أن يقول : هو فاسق ، أو عدل ، وهو اختيار القاضي أبي بكر ، اعتمادا على الجارح والمعدل ؛ لأنه ، إن كان خبيرا بما يسقط العدالة ويثبتها ، عالما باختلاف الناس في ذلك واتفاقهم ، ضابطا له ، ذا بصيرة فيه ، قبل منه ، وإن لم يكن كذلك ، لم يقبل قوله في الجرح والتعديل ؛ فيرد ، أو يطالبه الحاكم ببيان السبب ، لينظر : هل هو مؤثر أم لا ؟ وإذا كان إنما يقبل في الجرح والتعديل من حاله في الضبط والعلم ما وصفنا ، لم يحتج معه إلى بيان السبب ، فإن البخاري أو مسلما ونحوهما من أئمة الحديث ، إذا جرحوا شخصا ، أو عدلوه ، يبعد بيان اشتراطهم للسبب ، مع اشتهار علمهم ، وضبطهم ، وإتقانهم ، واحتياطهم ، بخلاف من ليست حاله في ذلك كحالهم .

                قوله : " وعندنا : إنما يعتبر بيانه في الجرح ، في قول ، لاختلاف الناس فيه ، واعتقاد بعضهم ما ليس سببا سببا ، وفي قول : لا ، اكتفاء بظهور أسباب الجرح " .

                معنى هذه الجملة أن مذهب أحمد - رحمه الله تعالى - أن التعديل لا يشترط بيان سببه ، استصحابا لحال العدالة ، وهو قول الشافعي ، بخلاف سبب الجرح ؛ فإنه يشترط بيانه في أحد القولين عن أحمد ، وهو قول الشافعي ، وذلك لاختلاف الناس في سبب الجرح ، واعتقاد بعضهم ما لا يصلح أن يكون سببا للجرح جارحا ، كشرب النبيذ متأولا ؛ فإنه يقدح في العدالة عند مالك ، دون غيره ، وكمن يرى إنسانا يبول قائما ؛ فيبادر لجرحه لذلك ، ولم ينظر في أنه متأول ، مخطئ أو معذور ، كما حكي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه بال قائما ؛ لعذر كان به ؛ فينبغي بيان سبب الجرح ، ليكون [ ص: 165 ] على ثقة واحتراز من الخطأ ، والغلو فيه .

                ولقد رأيت بعض العامة ، وهو يضرب يدا على يد ، ويشير إلى رجل ، ويقول : ما هذا إلا زنديق ، ليتني قدرت عليه ؛ فأفعل به ، وأفعل ؛ فقلت : ما رأيت منه ؟ فقال : رأيته وهو يجهر بالبسملة في الصلاة .

                والقول الثاني عن أحمد : لا يشترط بيان سبب الجرح أيضا " اكتفاء " أي : للاكتفاء بظهور أسبابه ؛ فإنها ظاهرة ، مشهورة بين الناس ، والظاهر من الجارح أنه إنما يجرح بما يعلمه صالحا للجرح ، والقول الأول أولى . ومذهب أبي بكر في عدم اشتراط بيان السبب فيهما حسن جيد ؛ فينبغي للحاكم أو المحدث ، أن لا يقبل إلا قول الجازم ، المتوسط بين المفرط والمفرط ؛ فمن غلا في الجزم ، حتى جرح بما يصلح وما لا يصلح ، لا يقبل قوله ؛ لأن الأول إفراط ، والثاني تفريط ، وكلاهما مذموم ، والصواب التوسط .

                ومما ينبغي أن يعتبر في الجارح والمعدل أن يكون عالما باختلاف مذاهب الناس في ذلك ، كما سبق ؛ فيجرح عند كل حاكم بما يراه ذلك الحاكم جرحا ؛ فيجرح عند المالكي بشرب النبيذ متأولا ؛ لأنه يراه قادحا دون غيره ، إذ لو لم يعتبر ذلك ، لكان الجارح أو المعدل غارا لبعض الحكام ، حتى يحكم بقول من لا يرى قبول قوله ، وهو ضرب من الغش في الدين ، وهو حرام .

                قوله : " والجرح مقدم ؛ لتضمنه زيادة خفيت عن المعدل " ، أي : إذا تعارض [ ص: 166 ] الجرح والتعديل ، بأن عدل الشاهد أو الراوي طائفة ، وجرحه طائفة ، قدم الجرح ، وعمل بمقتضاه ؛ لأنه تضمن زيادة خفيت على المعدل ، وذلك لأن مستند المعدل في تعديله استصحاب حال العدالة الأصلية ، وعدم الاطلاع على ما ينافيها ، ومستند الجارح الاطلاع على ما يقدح في العدالة ؛ فقدم قوله كراوي الزيادة في الحديث ؛ لأنه سمع ما لم يسمعه غيره ، وهذا إنما هو فيما إذا أمكن اطلاع الجارح على زيادة ، أما إذا استحال ذلك ، مثل أن قال الجارح : رأيت هذا قد قتل زيدا في وقت كذا ، وقال المعدل : رأيت زيدا حيا بعد ذلك الوقت ؛ فههنا يتعارضان ؛ فيتساقطان ، ويبقى أصل العدالة ثابتا .

                قلت : ويحتمل ههنا أن يقدم قول المعدل ؛ لأن السبب الذي استند إليه الجارح قد تبين بطلانه ؛ فتبين به أن الجرح كأنه لم يكن ؛ فيبقى التعديل مستقلا ، والحكم واحد ، غير أن على هذا الاحتمال ؛ تكون ثبوت عدالة هذا الراوي ثابتة بالأصالة وتعديل المعدل ، وعلى القول بتساقط الجرح والتعديل ، تكون ثابتة بالأصالة فقط .

                قلت : وهذه الصورة تشبه تعارض البينتين والأمارتين ، وما ذكره الفقهاء ؛ فيمن أخبره مخبر ، أن كلبا ولغ في هذا الإناء في وقت عينه ، وأخبره آخر أن الكلب المعين ، ولغ في إناء آخر في ذلك الوقت المعين ، ولم يكن الوقت متسعا لولوغه فيهما ؛ فيتعارض خبرهما ، ويكون الماء طاهرا ، لاستحالة الجمع بين الخبرين .

                [ ص: 167 ] قوله : " وإن زاد عدده على عدد الجارح في الأظهر فيه " ، أي : الجرح مقدم على التعديل ، وإن زاد عدد المعدل على عدد الجارح ، على أظهر القولين للناس فيه ، أي : فيما إذا زاد عدد المعدل ؛ لأن تقديم قول الجارح ، إنما كان لتضمنه زيادة خفيت عن المعدل ، وذلك موجود مع زيادة عدد المعدل ، ونقصه ، ومساواته ؛ فلو جرحه واحد ، وعدله مائة ، قدم قول الواحد لذلك .

                والقول الآخر : إن عدد المعدل إن زاد على عدد الجارح ، قدم قول المعدل ؛ لأن الكثرة تقوي الظن ، والعمل بأقوى الظنين واجب ، كما في تعارض الحديثين والأمارتين ، وغيرهما من المتعارضات ، وربما فهم هذا القول من قول الخرقي ، وإذا جرحه اثنان ، وعدله اثنان ؛ فالجرح أولى ، لكونه خص تقديم الجرح بما إذا استوى العددان ، والأشبه أن الخرقي لم يقصد هذا ، وإنما أراد تقديم الجرح على التعديل في الجملة .

                قوله : " واعتبر العدد فيهما قوم ، ونفاه آخرون ، وعندنا يعتبر في الشهادة دون الرواية " ، أي : اختلف الناس في اعتبار العدد في الجرح والتعديل ، أي : هل يعتبر فيه اثنان ؛ فصاعدا ، أو يكفي فيه واحد ، والمراد بالعدد اثنان فصاعدا .

                فقال قوم : لا بد منهما في الجرح والتعديل في الرواية ، قياسا على الشهادة ، وهو [ ص: 168 ] قول بعض المحدثين .

                وقال قوم : لا يعتبر العدد فيهما ، لا في الرواية ، ولا في الشهادة .

                ومأخذ الخلاف أن الجرح والتعديل شهادة [ فيلزم فيه العدد ] ، أو رواية ؛ فيكفي فيه الواحد ، وعندنا - وهو قول القاضي أبي بكر والأكثرين - إنما يعتبر العدد في الجرح والتعديل ، في الشهادة دون الرواية .

                قوله : " وإلا لزاد الفرع على الأصل " ، إلى آخره ، هذا دليل هذا القول .

                وتقريره : أنه لو اعتبر العدد في الجرح والتعديل في الرواية ، لكان الفرع زائدا على أصله ، فإن التعديل في الرواية تبع للرواية ، وفرع لها ؛ لأنه إنما يراد لأجلها ، والرواية لا يعتبر فيها العدد ، بل يكفي فيها راو واحد ؛ فكذا ما هو تبع وفرع لها . فلو قلنا : تقبل رواية الواحد ، ولا يكفي في تعديله إلا اثنان ، لزاد الفرع على أصله ، وزيادة الفروع على أصولها غير معهودة عقلا ولا شرعا ، ولا جرم لما اعتبرنا الفرع بأصله ، اطرد لنا في الشهادة ؛ فكما اعتبر العدد فيها ، اعتبر فيما هو فرع عليها لها ، وهو الجرح والتعديل لأجلها .

                فأما من جعل الجرح والتعديل شهادة يعتبر لها العدد ؛ فهو معارض بقول من جعلهما رواية لا يعتبر لها العدد ، ثم هو أولى ، حذرا من تضييع أوامر الشرع ؛ فإنا لو لم نقبل خبر الراوي إلا إذا عدله اثنان ، قل من يقبل خبره ، ولغي كثير من الأخبار المروية ، وخرجت عن أن يعمل بها .

                [ ص: 169 ] فإن قيل : هذا معارض ، بأن في اعتبار العدد احترازا من العمل في دين الله تعالى بما لا يستحق أن يعمل به ، وصيانة له أن يدخل فيه ما ليس منه .

                قلنا : هذا مردود ، بأن خبر من عدله مزك واحد يفيد الظن ، وهو مناط وجوب العمل كما سبق . فأما من عدله اثنان فصاعدا ؛ فإنما يفيد خبره من الظن أقوى من غيره ، لكن زيادة قوة الظن غير معتبرة ههنا ، وإلا لوجب اعتبار تعديل ثلاثة ، أو أربعة ، أو أكثر من ذلك ، حتى يفيد التواتر بعدالة الراوي ، وهو ملغى باتفاق ، وإنما المعتبر حصول مطلق ظن العدالة ، وهو حاصل من تعديل الواحد .



                قوله : " والمحدود في القذف " ، إلى آخره ، أي : المحدود بسبب القذف ، أي : لكونه قذف غيره . إما أن يكون قذفه بلفظ الشهادة ، مثل أن يشهد على إنسان بالزنى ، أو بغير لفظ الشهادة ، مثل أن قال لغيره : يا زاني ، فإن كان قذفه بلفظ الشهادة ، لم يرد خبره ، وقبلت روايته ؛ لأنه إنما يحد ، والحالة هذه لعدم كمال نصاب الشهادة بالزنى ، وهو أربعة ، إذ لو كملوا ، لحد المشهود عليه دون الشاهد ، وعدم كمال نصاب الشهادة ليس من فعل هذا الشاهد المحدود ، حتى يعاقب برد شهادته .

                وقد روى الناس عن أبي بكرة رضي الله عنه مولى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، واسمه نفيع بن الحارث ، وكان محدودا في قذفه للمغيرة بن شعبة بالزنى بلفظ الشهادة .

                وإن كان قذفه بغير لفظ الشهادة كقوله : يا زاني ، يا عاهر ، ونحوه ، ردت شهادته حتى يتوب ، لقوله تعالى :والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ النور : 4 - 5 ] [ ص: 170 ] ، أي : فاقبلوا شهادتهم بعد التوبة ، ولأن حد هذا القاذف ؛ كان بسبب من فعله ، وهو قذفه ؛ فعوقب عليه بالحد ، وسلب منصب الشهادة ، فإذا تاب ، قبلت شهادته والتوبة تجب ما قبلها .

                فائدة : كان من قصة أبي بكرة مع المغيرة بن شعبة ، ما ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني ، وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن المغيرة بن شعبة ، كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار ؛ فكان أبو بكرة يلقاه ؛ فيقول : إلى أين ذهب الأمير ؟ فيقول : إلى حاجة ؛ فيقول : حاجة ماذا ؟ إن الأمير يزار ولا يزور ، وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة . قال : فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أخويه ، نافع وزياد ، ورجل آخر يقال له : شبل بن معبد ، وكانت غرفة جارته تلك حذاء غرفة أبي بكرة ؛ فضربت الريح باب المرأة ؛ ففتحته ؛ فنظر القوم فإذا بالمغيرة ينكحها ؛ فقال أبو بكرة : هذه بلية ابتليتم بها ، انظروا ؛ فنظروا حتى أثبتوا ؛ فنزل أبو بكرة ؛ فجلس حتى خرج المغيرة عليه من بيت المرأة ؛ فقال : إنه قد كان من أمرك ما قد علمت ؛ فاعتزلنا . قال : وذهب ليصلي بالناس ؛ فمنعه أبو بكرة ، وقال : لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت . فقال الناس : دعوه ، [ ص: 171 ] فليصل ؛ فإنه الأمير ، واكتبوا ما بدا لكم إلى عمر ؛ فكتبوا إليه ؛ فورد كتابه بأن يقدموا عليه جميعا ، المغيرة والشهود ؛ فلما قدم على عمر رضي الله عنه ، قال له : إنه قد شهد عليك بأمر ، إن كان حقا ؛ فلأن تكون مت قبل ذلك خير لك ، ثم دعا بالشهود ؛ فقدم أبو بكرة ؛ فقال له : أرأيته بين فخذيها ؟ قال : نعم ، والله لكأني أنظر إلى تشريم الجدري بفخذيها ، قال له المغيرة : لقد ألطفت النظر . فقال : لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به . فقال عمر : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة . فقال : نعم أشهد على ذلك ؛ فقال له : اذهب عنك ، يا مغيرة ، ذهب ربعك . ثم دعا الثاني ؛ فقال : بم تشهد ؟ قال : على مثل شهادة أبي بكرة ، قال : لا ، حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة . فقال : نعم ، حتى بلغ قذذه . فقال : اذهب عنك ، يا مغيرة ، ذهب نصفك . ثم دعا الثالث ؛ فقال : علام تشهد ؟ قال على مثل شهادة صاحبي ؛ فقال عمر : ذهب عنك ثلاثة أرباعك . قال : ودعا زيادا فلما رآه عمر مقبلا ، قال : إني أرى رجلا ، لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين .

                قال أبو عثمان النهدي : لما شهد عند عمر الشاهد الأول ، تغير لذلك لون عمر ، ثم جاء الآخر ؛ فشهد ؛ فانكسر انكسارا شديدا ، ثم جاء الثالث ، يخطر بين يديه ؛ فرفع عمر رأسه إليه ؛ فقال : ما عندك يا سلح العقاب فضيحة عظيمة . قال : فلما تقدم الرابع ، وهو زياد ، التفت إليه المغيرة ؛ فقال : لا مخبأ لعطر بعد عروس ، ثم قال له : يا زياد ، اذكر الله ، واذكر موقف يوم القيامة ، فإن الله ، وكتابه ، [ ص: 172 ] ورسوله ، وأمير المؤمنين ، قد حظروا دمي إلا أن تتجاوز إلى ما لم تعلم ؛ فلا يحملنك سوء منظر رأيته علي ، أن تتجاوزه إلى ما لم تره ؛ فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ، ما رأيت أين سلك ذكري منها ، قال : فدمعت عيناه ، واحمر وجهه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، أما أن أحق ما أحق القوم ؛ فليس ذلك عندي ، ولكن رأيت مجلسا قبيحا ، وسمعت نفسا حثيثا ، ورأيته مستبطنها . فقال له : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟ فقال : لا . فقال عمر : الله أكبر ، يا علي ، قم إليهم ؛ فاضربهم الحد ؛ فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين سوطا وضرب الباقين ، وأعجبه قول زياد ، ودرأ الحد عن المغيرة ؛ فقال أبو بكرة بعد أن ضرب : فإني أشهد على المغيرة أنه فعل كذا وكذا . فهم عمر بضربه ؛ فقال له علي : إن ضربته ، رجمت صاحبك ، ونهاه عن ذلك ، يعني إن ضربه ، جعل شهادته بشهادتين ؛ فوجب بذلك الرجم على المغيرة ، قال : فاستتاب عمر رضي الله عنه أبا بكرة ؛ فقال : إنما تستتيبني لتقبل شهادتي . فقال : أجل ؛ فقال : لا أشهد ما بقيت بين اثنين أبدا في الدنيا . وقال المغيرة لما ضربوا : الله أكبر ، الحمد لله الذي أخزاكم ؛ فقال عمر : اسكت ، أخزى الله مكانا رأوك فيه . قال : فأقام أبو بكرة على قوله ، [ ص: 173 ] وتاب الاثنان ؛ فكان أبو بكرة بعد ذلك ، إذا دعي إلى شهادة ، قال : اطلب غيري ، فإن زيادا قد أفسد علي شهادتي .

                قلت : هذا ما انتهى إلينا من القصة من هذه الجهة ، وفي قول علي رضي الله عنه : إن ضربته ، رجمت صاحبك ، إشكال ؛ لأن أبا بكرة ، وإن كان صحابيا مكرما ، ولا نظن به الكذب ، خصوصا في هذا الأمر العظيم ، غير أنه بحكم الآية الكريمة قد صار فاسقا ، حيث رمى المحصنات ، ولم يأت بأربعة شهداء ، والفاسق يؤثر قذفه في أنه يحد به ، ولا يؤثر في المقذوف .

                والفرض أن ذلك قبل التوبة ؛ لأن أبا بكرة لم يتب من ذلك ، بل أصر على الشهادة . والذي يتخرج عليه كلام علي رضي الله عنه ، أنه أقام شبهة لدرء الحد الثاني عن أبي بكرة ، وتغاضى عمر عن مناقشته ، أو أنه ظن صحة الشبهة المذكورة .

                قال الشعبي : وافقت أم جميل بنت عمرو ، التي رمي بها المغيرة بن شعبة بالموسم ، عمر والمغيرة ؛ فقال له عمر : أتعرف هذه ؟ قال : نعم ، هذه أم كلثوم [ ص: 174 ] بنت علي . فقال له : أتتجاهل علي ؟ والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك ، وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء .

                قلت : لأن عمر عرض للشاهد الرابع بأن لا يشهد ، بقوله : إني أرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين ، وكان قصده بذلك خيرا ، ومع ذلك ، خشي أن يكون قد أعان على إبطال حد من حدود الله عز وجل .

                قال المدائني : لما شخص المغيرة إلى عمر - يعني في هذه القصة - رأى في طريقه جارية أعجبته ؛ فخطبها إلى أبيها ؛ فقال له : وأنت على هذه الحال ، قال : وما عليك ، إن أعف ؛ فهو الذي أريد ، وإن أقتل - يعني في الحد - ترثني ؛ فزوجه . فلما قدم على عمر رضي الله عنه ، قال : إنك لفارغ القلب ، طويل الشبق ، قال : وكان يقال : ما اختلج في صدر المغيرة أمران إلا اختار أحزمهما .

                قلت : أحسبه بالزاي المعجمة من الحزم ، وهو ضد التفريط ، والذي رأيته مضبوطا بالراء المهملة ، فإن صح ذلك ؛ فهو نقيض عمار بن ياسر ، حيث كان لا يخير بين أمرين ، إلا اختار أشدهما وأغلظهما . والله أعلم بالصواب .



                قوله : " وتعديل الراوي : إما بصريح القول " ، إلى آخره .

                لما تقرر القول في حقيقة الجرح والتعديل ، والحكم في بيان سببهما ، واعتبار [ ص: 175 ] العدد فيهما ، وجب القول فيما يحصل به التعديل ، وهو ثلاثة أشياء :

                أحدها : صريح القول وتمامه ، أي : تمام القول الذي يحصل به التعديل ، أن يقول المعدل : هو عدل رضى ، مع بيان السبب ، أي : يبين سبب العدالة ، مع قوله : هو عدل رضى ، بأن يثني عليه بمحاسن ما يعلم منه ، مما ينبغي شرعا ، من أداء الواجبات ، واجتناب المحرمات ، واستعمال وظائف المروءة .

                الثاني : مما يحصل به التعديل الحكم بروايته ، وهو أقوى من التعديل القولي ، أي : من التعديل بالقول بقوله : هو عدل رضى ؛ لأن ذلك قول مجرد ، والحكم بروايته فعل تضمن القول ، أو استلزمه ، إذ تعديله القولي تقديرا ، من لوازم الحكم بروايته ، وإلا كان هذا الحاكم حاكما بالباطل . وفي كلام الشيخ أبي محمد ههنا تناقض ؛ لأنه ذكر طرق التعديل ، وقال : أعلاها صريح القول . ثم قال : والحكم بشهادته أقوى من تزكيته بالقول ، وعبارة " المختصر " بريئة من هذا التناقض .

                قوله : " وليس ترك الحكم بها جرحا " ، أي : الحكم برواية الراوي تعديل له ، لما ذكرنا ، وترك الحكم بها ليس جرحا له ؛ لأنه قد يتوقف في الحكم بها ، لسبب غير الجرح ، مثل أن يتردد ، هل هو عدو متهم لعداوته ، أو قريب متهم لقرابته ، أو يكون الحاكم ممن لا يرى قبول خبر الواحد في ذلك الحكم ، مثل أن يكون حنفيا ، والخبر فيما تعم به البلوى ، أو كان مالكيا والخبر على خلاف قياس الأصول ، ونحو [ ص: 176 ] ذلك ، وأيضا كما أن مخالفة الراوي لما رواه لا تقدح في صحة الخبر ؛ فكذلك ترك الحكم بالرواية لا يقدح في الراوي .

                الثالث : مما يحصل به التعديل العمل بخبر الراوي ، بشرط أن يعلم أن لا مستند للعمل غير روايته ، وإلا فلا .

                أي : وإن لم يعلم أنه لا مستند للعمل إلا روايته ، لم يكن تعديلا ؛ لاحتمال أنه عمل بدليل آخر ، وافق رواية الراوي ، وكانت هي زائدة ، لا حاجة إليها ، ولا معول عليها .

                وقد اصطلح قضاة العصر وغيرهم ، على أنه إذا شهد عند أحدهم من لا يثق بشهادته ، ولا يمكنه التصريح بردها ، يطلب زيادة شهود ، حتى تكمل البينة بغير ذلك الشاهد ، ويحكم بها ، موهما لذلك الشاهد أنه حكم بشهادته ، جمعا بين المصلحتين : مصلحة الاستيثاق للحكم ، وعدم تنفير هذا الشاهد برد شهادته .

                قوله : " وإلا لفسق العامل " ، أي : العمل بخبر الراوي تعديل له ؛ لأنه يدل على ثبوت عدالته عند العامل ، إذ لو لم يدل على ثبوت عدالته عنده لجاز أن يكون قد عمل بخبره بدون ثبوت عدالته عنده ، ولو عمل بخبره بدون ثبوت عدالته عنده لفسق العامل بهذا الخبر ؛ لأنه يكون عاملا بخبر غير العدل ، والعمل بخبر غير العدل فسق ؛ لأنه تلبيس وغرر في الدين ، وغش للمسلمين ، إذ يوهمهم بعمله بخبر [ ص: 177 ] هذا الراوي عدالته ، وليس بعدل ؛ فيغترون به ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من غشنا فليس منا ، وقال : المكر والخديعة في النار . واعلم أن عبارة " المختصر " في هذه الجملة ؛ فيها نوع إشكال ، لاشتمالها على صيغة الاستثناء مرتين ؛ فلا بأس أن نوضحها بعبارة أخرى ؛ فنقول :

                العمل بخبر الراوي : إما أن يكون مع العلم بانحصار مستند العمل فيه ، أو لا .

                فإن كان ؛ فهو تعديل له ، وإلا لفسق العامل ، لكونه تلبيسا .

                وإن لم يكن مع العلم بانحصار مستند العمل فيه ، لم يكن تعديلا ، لجواز استناد العمل إلى دليل آخر .

                قوله : وفي كون الرواية عنه تعديلا له قولان :

                أحدهما : نعم ، قياسا على العمل به ، والحكم بروايته .

                والثاني : لا ؛ لأن الأئمة قد رووا عن العدل وغيره ، وعن الضعيف وغيره .

                والحق - يعني التحقيق في هذا - أنه إن عرف من مذهب الراوي ، أو عادته ، أو صريح قوله ، أنه لا يرى الرواية ، ولا يروي إلا عن عدل ، كانت روايته تعديلا لمن روى عنه ، كما سئل مالك رضي الله عنه عن رجل : هل هو حجة أم لا ؟ فقال [ ص: 178 ] للسائل : أرأيته في كتبي ؟ قال : لا . قال : فلو كان حجة ، لرأيته . أو كلاما هذا معناه . فاستفيد من قول مالك هذا أنه لا يروي إلا عن حجة ثبت ، ولهذا قيل : إذا ذكر الحديث ؛ فمالك النجم .

                وإن لم يعلم ذلك من مذهب الراوي ، أو عادته ، أو صريح قوله ، أو دلالته الظاهرة ، كما حكيناه عن مالك ، لم تكن روايته تعديلا لمن روى عنه ، إذ قد يروي الشخص عمن لو سئل عنه ، لسكت ؛ إما لعدم علمه بحاله ، أو تفويضا إلى السائل أمر البحث عنه .

                قوله : " وقوله : سمعت فلانا صدق " ، إلى آخره . هذا جواب سؤال مقدر .

                وتقريره : لو لم تكن روايته تعديلا للراوي ، لكان غاشا في الدين ، إذ قد يروي عمن ليس بعدل ، ويوهم الناس عدالته بروايته عنه ، حيث يقول : سمعت فلانا يقول كذا .

                وجوابه : أن قوله : سمعت فلانا صدق ، ولا يلزم من ذلك عدالة فلان ، إذ قد يحصل السماع من العدل وغيره . وأما تركه بيان حاله ؛ فلعله جهل حاله ؛ فروى عنه ، ووكل البحث عن حاله إلى من أراد قبول روايته ، أي : جعله موكولا ، أي : مفوضا إليه .

                يقال : وكلت أمري إلى الله ، أي : فوضته إليه ، واعتمدت فيه عليه ، ومما يوضح هذا أن مقصود الرواية في دين الإسلام أمران :

                أحدهما : حفظ السنة بطرقها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                الثاني : تبيين صحيحها من سقيمها .

                وهذان الأمران هي وظيفة المحدثين ، لكن بعضهم التزمهما جميعا ، [ ص: 179 ] كالشيخين وغيرهما ممن صنف الصحيح ، ومنهم من التزم الأول فقط ، وهو حفظ السنة بطرقها ، ثم قال بلسان حاله أو مقاله لأهل العلم : أنا قد حفظت عليكم هذه السنة ؛ فانظروا أنتم فيها ؛ فاعملوا بصحيحها ، ودعوا سقيمها ، وهذه طريقة مسند أحمد رضي الله عنه ، وما أشبهه من جوامع الحديث . فإن أحمد روى في مسنده القوي واللين ، وقال : كل ما اختلف فيه من سنة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فارجعوا فيه إلى هذا المسند ، فإن لم تجدوا له أصلا فيه ؛ فليس بحجة ؛ فإني قد انتقيته من سبعمائة ألف حديث ، وخمسين ألف حديث ؛ فبين أحمد رضي الله عنه ، أن مقصوده في مسنده تدوين السنة المروية ، لا بيان صحيحها من سقيمها ، ثم لما احتاج عند العمل إلى معرفة الصحيح من غيره ، بين ذلك بأسبابه وعلله ، في مسائله المنقولة عنه ، كـ " جامع الخلال " ، و " زاد المسافر " و " مسائل حرب " ، وكتاب " العلل " ، وغير ذلك مما نقل عنه ، وهو كثير جدا ، والله أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية