الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 557 ] الرابع : النص : كتخصيص لا قطع إلا في ربع دينار ، لعموم والسارق والسارقة [ المائدة : 38 ] ، ولا زكاة فيما دون خمسة أوسق . لعموم : فيما سقت السماء العشر ، وسواء كان العام كتابا ، أو سنة ، متقدما ، أو متأخرا ، لقوة الخاص وهو قول الشافعية . وعن أحمد يقدم المتأخر ، خاصا كان أو عاما ، وهو قول الحنفية ، لقول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث ، ولأن العام كآحاد صور خاصة ; فجائز أن يرفع الخاص . ولنا : أن في تقديم الخاص عملا بكليهما بخلاف العكس ; فكان أولى ، فإن جهل التاريخ فكذلك عندنا . ومتعارضان عند الحنفية لاحتمال تأخر العام ونسخه الخاص ، وقال بعض الشافعية : لا يخص عموم السنة بالكتاب ، وخرجه ابن حامد قولا لنا ; لأنها مبينة له ; فلو خصها لبينها ; فيتناقض . ولنا : أن ما بينته منه لا يبينها وبالعكس ، أو يبين كل منها الآخر باعتبار جهتين ; فلا تناقض ، وقال بعض المتكلمين : لا يخص عموم الكتاب بخبر الواحد لضعفه عنه ، وقال عيسى بن أبان : يخصص المخصص دون غيره . بناء على قوله : إن المخصص مجاز ; فيضعف . وحكي عن أبي حنيفة . وتوقف بعضهم ، إذ الكتاب قطعي السند ، والخبر قطعي الدلالة فيتعادلان . لنا : إرادة الخاص أغلب من إرادة عموم العام ; فقدم لذلك ، وأيضا تخصيص الصحابة : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] ، بـ لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها ، وآية الميراث بـ لا يرث المسلم الكافر . والكافر المسلم . ولا إرث لقاتل ، ونحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وعموم الوصية بـ لا وصية لوارث . و حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، بـ حتى يذوق عسيلتك . متسارعين إلى ذلك من غير طلب تاريخ . ودعوى الواقفية التعادل ممنوع بما ذكرنا . وإلا لتوقف الصحابة .

                [ ص: 558 ]

                التالي السابق


                [ ص: 558 ] " الرابع " : من مخصصات العموم : " النص " الخاص ، " كتخصيص " قوله عليه السلام : لا قطع إلا في ربع دينار ، لعموم قوله عز وجل : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، فإن هذا يقتضي عموم القطع في القليل والكثير ; فخص بالحديث ما دون ربع دينار ; فلا قطع فيه ، وكتخصيص قوله عليه السلام : لا زكاة فيما دون خمسة أوسق . لعموم قوله عليه السلام : فيما سقت السماء العشر . فإن هذا يقتضي وجوب العشر في قليل ما سقي بالسماء وكثيره ; فخص بالحديث الأول منه ما دون خمسة أوسق ; فلا زكاة فيها .

                وسواء كان العام كتابا أو سنة ، وسواء كان متقدما أو متأخرا ، فإن الخاص يخصه ، لا يقدم عليه " لقوة الخاص " ، أي : لقوة دلالته على مدلوله ; فإنها قاطعة ، ودلالة العام على أفراده ظاهرة ، والقاطع مقدم على الظاهر .

                مثاله : لو قال : كلما سرق السارق ; فاقطعوه ، وهو معنى الآية ; فدلالته على قطع من سرق دون ربع دينار ظاهرة ، ودلالة قوله عليه السلام : لا قطع إلا في ربع دينار . على عدم القطع فيما دونه قاطعة ; فيقدم ، " وهو " [ ص: 559 ] يعني التسوية بين عموم الكتاب والسنة متقدمة ومتأخرة في تقديم الخاص عليه هو " قول الشافعية . وعن أحمد رحمه الله تعالى يقدم المتأخر " ، من النصين " خاصا كان أو عاما ، وهو قول الحنفية " ، لوجهين :

                أحدهما : قول ابن عباس : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول صلى الله عليه وسلم ، أي : بالآخر فالآخر ، وهو عام في تقديم المتأخر خاصا كان أو عاما ; لأنه الذي استقر عليه حكم الشرع .

                الثاني : أن المتأخر إن كان هو الخاص ; فهو المقدم باتفاق ، وإن كان هو العام ; فهو كآحاد صور خاصة ; فجاز أن يرفع الخاص . وتحقيق هذا بنحو ما سبق في أن الباقي بعد التخصيص حقيقة .

                وتقريره أن اللفظ العام كألفاظ متعددة يدل على مسميات متعددة ، كما لو نص على كل واحد منها بلفظ ; فالحكم في كل واحد من المسميات المذكورة يصح أن يرفع الحكم المنافي له في مسمى خاص ثبت قبله .

                مثاله : لو قال : أعط زيدا درهما ، ثم قال : لا تعط أحدا شيئا ; فكأنه [ ص: 560 ] قال : لا تعط فلانا شيئا ولا فلانا ولا زيدا ; فكان هذا النهي عن إعطاء زيد رافعا للأمر المتقدم بإعطائه .

                قوله : " ولنا أن في تقديم الخاص عملا بكليهما ، بخلاف العكس " ، أي : لنا على تقديم الخاص على العام تقدم أو تأخر ، أن في تقديم الخاص عملا بكلا الدليلين : الخاص والعام فيما عدا صورة التخصيص ، وفي تقديم العام إلغاء للعمل بالخاص ، والنصوص الشرعية يجب العمل بها ما أمكن ; فيكون العمل بكلا النصين بتقديم الخاص أولى من إلغاء الخاص بتقديم العام .

                وبيانه أنه إذا قال : أعط زيدا درهما ، ثم قال : لا تعط أحدا شيئا ، فإذا عمل بهذا العموم وحده ، ومنع زيدا ، كان ملغيا للنص الخاص في إعطاء زيد ، وإذا أعطى زيدا ، ومنع من سواه ، كان عاملا بالنص الخاص في إعطاء زيد ، وبالعام في منع غيره ; فيكون أولى من تعطيل أحد النصين .

                والجواب عما احتج به الخصم ، أما قول ابن عباس : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث ; فهو محمول على النسخ بدليل ما ذكرناه ، وشرط النسخ التعارض وعدم إمكان الجمع من كل وجه ، وهو منتف هاهنا .

                وأما قولهم : العام كآحاد صور خاصة ; فجاز أن يرفع الخاص .

                قلنا : الجواز مسلم ، لكن ما ذكرناه أولى ، والأولى في الشرعيات متعين ; لأنه أغلب على الظن ، وبيان أن ما ذكرناه أولى ; ما سبق في دليلنا . [ ص: 561 ] وأيضا فإن ما ذكرتموه نسخ ، وما ذكرناه تخصيص . وإذا تعارض النسخ والتخصيص ، كان التخصيص أولى ; لأنه بيان وتقرير ، والنسخ إبطال وتعطيل ، ولأن النسخ على خلاف الأصل ، إذ الأصل دوام الحكم واستمراره ، والبيان على وفق الأصل في كلام الحكيم إذ الأصل أن يكون المراد به بينا ، لكن البيان قد يقارن الخطاب ، وقد يتأخر عنه .

                قلت : ولعل مثار الخلاف أن العام هل يدل على أفراده بالنصوصية أو بالظهور ؟ .

                فإن قيل : بالنصوصية ; فلا فرق بين الخاص وطبقه من العام في أن كلا منهما مقطوع بإرادة حكمه فيه ; فيرفع الثاني الأول .

                وإن قلنا : بالظهور ، وهو الأظهر ; فالخاص قاطع في الدلالة ; فيقدم كما سبق .

                قوله : " فإن جهل التاريخ ; فكذلك عندنا " ، أي : يقدم الخاص على العام ; لأن أكثر ما في جهالة التاريخ أن يقدر تأخر العام ، ونحن لو تحققنا تأخره ، قدمنا الخاص عليه ; فلا فرق على قولنا بين تقدمه وتأخره ، وجهالة التاريخ ، وعند الحنفية يتعارضان ، وهو قياس الرواية المذكورة عن أحمد .

                والتعارض بين الخاص وما قابله من العام ; لأنه يحتمل أن يكون العام متأخرا ; فيكون ناسخا للخاص ، ويحتمل أن يكون العام متقدما ; فيكون مخصوصا بالخاص ولا مرجح ; فيجب الوقف لئلا يكون ترجيح أحدهما تحكما .

                [ ص: 562 ] قلت : والجواب عن هذا بمنع عدم المرجح ، بل المرجح موجود ، وهو ما سبق من ترجيح التخصيص على النسخ إذا تعارضا .

                قوله : وقال بعض الشافعية : لا يخص عموم السنة بالكتاب " ، هذا متصل بقوله قبل : " وسواء كان العام كتابا أو سنة " ، أي : فإنه يخص بالخاص ، كتابا كان الخاص أو سنة ، وذلك يقتضي تخصيص عموم السنة بالكتاب وقال بعض الشافعية : لا يجوز ذلك . " وخرجه ابن حامد قولا " ، أي : رواية " لنا " واحتجوا بأن السنة مبينة للكتاب ، لقوله عز وجل : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ; فلو خصصها الكتاب ، لبينها ; لأن التخصيص بيان . وحينئذ يلزم التناقض ، إذ يصير كل واحد منهما مبينا للآخر وتابعا له ; لأن المبين تابع للمبين ، بفتح الياء ، وكون كل واحد من الشيئين تابعا للآخر باطل .

                قوله : " ولنا أن ما بينته منه لا يبينها وبالعكس " ، إلى آخره ، أي : لنا على صحة تخصيص السنة بالكتاب والجواب عما ذكره الخصم وجهان :

                أحدهما : أن الدور والتناقض إنما يلزم من ذلك لو بين كل واحد منهما من الآخر ما بينه الآخر منه بعينه ، وليس كذلك ، بل الذي تبينه السنة من الكتاب لا يبينه الكتاب من السنة ، وما يبينه الكتاب من السنة لا تبينه السنة من الكتاب ; فلا دور ولا تناقض . وقد سبق مثل هذا الجواب في النسخ .

                الوجه الثاني : أن تبيين كل واحد منهما للآخر من وجه ; فيكون ذلك [ ص: 563 ] باعتبار جهتين ; فلا تناقض . وهذا يرجع إلى الأول أو يشبهه .

                قوله : " وقال بعض المتكلمين : لا يخص عموم الكتاب بخبر الواحد لضعفه " ، أي : لضعف الخبر عن الكتاب .

                وقال عيسى بن أبان : " يخصص المخصص دون غيره " ، أي : خبر الواحد يخص العام من الكتاب إذا كان مخصوصا بغيره ، ولا يخص العام غير المخصوص .

                قلت : هذا بناء على قول عيسى : إن العام المخصوص يبقى مجازا ; فيضعف ; فيقوى خبر الواحد على تخصيصه .

                قلت : فإن كان قول عيسى هذا بناء على ما ذكرت ; ففيه ضرب من التهافت ; لأن العام المخصوص لا يبقى حجة عنده على ما سبق ، وإذا لم يكن حجة ، لم يكن للقول بتخصيصه فائدة ، إذ فائدة التخصيص بيان أن الصورة المخصوصة لا يتناولها حكم العموم . والتقدير : أن العموم لم يبق له حكم أو له حكم مجمل غير معلوم ; فيحتاج إلى البيان ; فهذا وجه التهافت في قوله : العام المخصوص لا يبقى حجة مع قوله : يجوز تخصيصه بخبر الواحد .

                وحكي عن أبي حنيفة ، يعني قول عيسى بن أبان ، قال الشيخ أبو محمد : حكاه القاضي عن أبي حنيفة . " وتوقف بعضهم " ، وهم طائفة من الواقفية ، في تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ; لأن " الكتاب قطعي السند " لتواتره ، ظني الدلالة لما عرف من أن دلالة العام ظاهرة ظنية ، وخبر الواحد " قطعي [ ص: 564 ] الدلالة " لخصوصه ونصوصيته في مدلوله ، ظني الثبوت من حيث السند ; لأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم كما سبق ; فيتعادلان لأن كل واحد منهما صار راجحا من وجه ، مرجوحا من وجه .

                مثال ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( كلوا مما في الأرض ) [ البقرة : 168 ] ، مع نهيه عليه السلام عن كل ذي ناب من السباع ; فيقدم الخبر عندنا على ما يقابله من الآية ويتعادلان عند الواقفية .

                " لنا " على تقديم الخاص وجهان :

                أحدهما : أن " إرادة الخاص أغلب من إرادة عموم العام " ، أي : إذا ورد عام وخاص ; فالظاهر الغالب أن حكم الخاص مراد به ، وأن المراد بالعام ما عدا الحكم الخاص .

                مثاله : إن إرادة أن الأنبياء لا يورثون من قوله عليه السلام : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " . أظهر من إرادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يورث من قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ النساء : 11 ] ، وإذا كانت إرادة الخاص أظهر وأغلب ، قدم لذلك ، أي : لظهوره وغلبته . وقد سبق بيان تقديم الخاص على العام بطريق آخر .

                [ ص: 565 ] الوجه الثاني : أن الصحابة ذهبوا إلى ذلك وبادروا إليه بفقههم في صور كثيرة :

                منها : تخصيص قوله عز وجل : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] ، بقوله عليه السلام : " لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها " ، والآية بلفظها متناولة لجواز ذلك .

                ومنها تخصيص آية الميراث ، وهي قوله عز وجل : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ النساء : 11 ] ، بقوله عليه السلام : " لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم " . والآية بلفظها متناولة لتوارثهما والدا ومولودا ، وكذلك خصت في القاتل بقوله عليه السلام : " لا إرث لقاتل " . وفي ولد النبي عليه السلام وأقاربه بقوله عليه السلام : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " .

                ومنها : تخصيص عموم الوصية في قوله عز وجل : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ) [ البقرة : 180 ] ، بقوله عليه السلام : " لا وصية لوارث " . والآية بلفظها متناولة للوصية له .

                ومنها تخصيص قوله سبحانه وتعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [ ص: 566 ] [ البقرة : 230 ] ، بقوله عليه السلام لامرأة رفاعة : " لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .

                وإذا ثبت تخصيص الصحابة عموم الكتاب بخصوص السنة متسارعين إليه من غير طلب تاريخ ، ولا سؤال عن العام : هل خص أم لا ، ولا توقف ، دل ذلك على جوازه ، بل وجوبه ; لأنه ذريعة إلى تعريف الحكم الشرعي الواجب ، وذريعة الواجب واجب .

                وأما الواقفية ; فدعواهم التعادل بين عام الكتاب وخاص السنة ممنوعة بما ذكرناه من اتفاق الصحابة على التخصيص ومبادرتهم إليه ، " وإلا " أي : ولو لم يكن ذلك جائزا ، " لتوقف الصحابة " كما توقفتم .

                تنبيه : قولنا : من غير تاريخ يعرض بما سبق من أن التاريخ إذا جهل ، يقدم الخاص عندنا ، ويتعارضان عند الحنفية ، أي : فلو صح هذا ، لاستفصل الصحابة في تخصيصهم هذه العمومات بين أن يكون العام متقدما أو متأخرا ، واحتاجوا لذلك إلى طلب التاريخ ، لكن ذلك لم ينقل عنهم مع كثرة مجاري اجتهاداتهم بتخصيص العام وغيره ; فدل على ما ذكرناه من عدم الفرق بين تقدم العام وتأخره .

                وأما قوله عز وجل : ( حتى تنكح زوجا غيره ) مع قوله عليه السلام : " حتى يذوق عسيلتك " . فلا يصح أن يجعل من باب تخصيص العام ; لأن أحدا لم يقل فيما علمت أن النكاح عام في العقد والوطء حتى يكون ذوق [ ص: 567 ] العسيلة تخصيصا لأحدهما بالإرادة ، بل الصواب أنه من باب بيان المجمل ; لأن قوله سبحانه وتعالى : ( حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 230 ] ، تردد بين أن يكون المراد به العقد أو الوطء ; فبين النبي صلى الله عليه وسلم ، أن المراد به الوطء ، والأقوال المشهورة في النكاح : هل هو حقيقة في الوطء أو في العقد ، أو مشترك بينهما ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية