الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 663 ] ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بطهور " " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . وهو مجمل عند الحنفية ، قيل : لتردده بين اللغوي والشرعي ، وقيل : لأن حمله على نفي الصورة باطل ; فتعين حمله على نفي الحكم ، والأحكام متساوية .

                ولنا : أن الموضوعات الشرعية غلبت في كلام الشارع ; فاللغوية بالنسبة إليها مجاز ، وأيضا اشتهر عرفا نفي الشيء لانتفاء فائدته ، نحو : لا علم إلا ما نفع ، ولا بلد إلا بسلطان . فيحمل هنا على نفي الصحة لانتفاء الفائدة ، وكذا الكلام في " لا عمل إلا بنية " .

                التالي السابق


                قوله : " ومنها " ، أي : ومن الأمور التي ادعي الإجمال فيها ، وليست كذلك : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة إلا بطهور ، " " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . ونحوه " وهو مجمل عند الحنفية " ، وأبي عبد الله [ ص: 664 ] البصري ، والقاضي أبي بكر .

                قوله : " قيل : لتردده بين اللغوي والشرعي " ، أي : ثم ، تارة يوجه إجمال ذلك ، بأنه متردد بين معناه اللغوي والشرعي ، كالصلاة بين الدعاء ، والأفعال الشرعية المعروفة ، والصيام بين الإمساك المطلق لغة ، والإمساك الخاص شرعا ; فلا يعلم أيهما المراد .

                وتارة يوجه إجماله ، بأن قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة إلا بطهور " ; إما أن يحمل على أن المراد نفي صورة الصلاة ، أو نفي حكمها ، والأول باطل ; لأن صورة الصلاة شرعا يمكن إيجادها بغير طهور ، كصلاة المحدث ; فتعين أن المراد نفي حكم الصلاة بغير طهور ، ولكن الأحكام متعددة متساوية ، كالصحة والكمال ، والإجزاء ; فيبقى الكلام مترددا بين : لا تصح الصلاة ، أو لا تكمل ، أو لا تجزئ ، أو لا تقبل بغير طهور ، ولا يعلم أيها المراد ; فيجيء الإجمال .

                قوله : " ولنا " ، يعني على نفي الإجمال في هذا وجهان :

                أحدهما : الموضوعات ، يعني المصطلحات ، الشرعية غلبت في كلام الشارع ، لما سبق في إثبات الحقائق الشرعية ، من أن الشارع شأنه بيان الأحكام ، لا بيان اللغات ، وحينئذ صارت الموضوعات اللغوية بالنسبة إلى الشرعية في كلام الشارع مجازا كما سبق ، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة [ ص: 665 ] والمجاز ; فالحقيقة أولى به ; فإذن حمل قوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة ، ولا صيام ونحوه يجب حمله على حقيقته الشرعية ، وليس مترددا بين معناه اللغوي والشرعي ; فلا إجمال فيه ، وهذا جواب عن توجه الإجمال أولا .

                الوجه الثاني : أنه اشتهر في العرف نفي الشيء لانتفاء فائدته ، نحو قولهم : لا علم إلا ما نفع ، ولا بلد إلا بسلطان ، وإن كان العلم غير النافع علما بالحقيقة ، والبلد الذي لا سلطان فيه بلدا بالحقيقة ; فيحمل الكلام هنا على نفي الصحة ، لانتفاء الفائدة ; لأن الصلاة بغير طهور ، والصيام بغير تبييت نية لا يفيدان ; فانتفت صحتهما ، لانتفاء فائدتهما ، إذ قد سبق أن الصحة عبارة عن ترتيب الفوائد ، والآثار المقصودة من الفعل ، وهذا جواب عن توجيه الإجمال ثانيا .

                قولهم : " حمله على نفي الصورة باطل " .

                قلنا : نعم .

                قولهم : " تعين حمله على نفي الحكم ، والأحكام متساوية " .

                قلنا : لا نسلم تساويها ، بل حمله على نفي الصحة أولى ، عرفا ولغة ، لدخول حرف النفي على ذات الفعل ، فإنه إذا تعذر نفي صورته ، كان حمله على نفي صحته أقرب إلى حمله على نفي صورته ; فكان أولى .

                وقد قرر الدليل في هذا الأصل على وجه آخر ، وهو : أن الشارع ، إن كان له في هذه الأسماء عرف ، وجب تنزيل لفظه على نفي الحقيقة في [ ص: 666 ] عرفه ; لأن الأصل والغالب مخاطبته لنا بعرفه ; فلا إجمال ، وإن لم يكن له فيها عرف ; فلا إجمال أيضا حملا للفظ على المتبادر منه عرفا ، وهو نفي الفائدة والجدوى . ويلزم من ذلك نفي الصحة ، إذ صحيح ، لا فائدة ولا جدوى له غير معقول ، وإن لم يكن بد من الإضمار ، أضمرنا نفي الصحة والكمال جميعا ، إذ ما يمكن إضماره غير خارج عنهما بالإجماع ، وغاية ما في ذلك أنه تكثير للإضمار ، وهو خلاف الأصل ، غير أنا نقول : تكثير الإضمار مع حصول البيان أولى من الإجمال .

                قوله : " وكذا الكلام في " قوله عليه الصلاة والسلام : " لا عمل إلا بنية " ، أي : ليس بمجمل ، إذ المراد نفي فائدته وجدواه بدون النية ; فتنتفي صحته لما مر ، ومن ادعى إجماله ، قال : صورة العمل بدون النية لا تنتفي ; فوجب أن يكون المراد نفي حكمه ، وأحكامه متعددة متساوية ، كالصحة والكمال ; فجاء الإجمال .

                والجواب : لا نسلم تساوي أحكامه ، بل نفي الصحة أظهر عرفا ولغة كما سبق . سلمنا تساويها لكن المراد نفي جميعها ، وتكثير الإضمار أولى من الإجمال .

                [ ص: 667 ] تنبيه : النزاع في قوله عليه السلام : " إنما الأعمال بالنيات " . من هذا الباب ; لأن الأعمال مبتدأ ، وخبره محذوف ; فاختلفوا : هل هو الصحة ؟ فيكون التقدير : إنما الأعمال صحيحة ، أو الكمال ؟ فيكون تقديره : إنما الأعمال كاملة ، والأظهر إضمار الصحة لما سبق ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية