الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 568 ] الخامس : المفهوم لأنه دليل كالنص : " كتخصيص : " في أربعين شاة شاة " ، بمفهوم : " في سائمة الغنم الزكاة . . "

                السادس : فعله صلى الله عليه وسلم ، كتخصيص : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) [ البقرة : 222 ] ، بمباشرته الحائض دون الفرج متزرة ، ويمكن منعه حملا للقربان على نفس الوطء كناية . وخصص قوم عموم : ( الزانية والزاني فاجلدوا ) بتركه جلد ماعز .

                السابع : تقريره صلى الله عليه وسلم ، على خلاف العموم مع قدرته على المنع لأنه كصريح إذنه ، إذ لا يجوز له الإقرار على الخطأ لعصمته .

                الثامن : قول الصحابي إن جعل حجة كالقياس ، وأولى .

                التاسع : قياس النص الخاص يقدم على عموم نص آخر عند أبي بكر ، والقاضي ، وهو قول الشافعي وجماعة من الفقهاء والمتكلمين خلافا لأبي إسحاق بن شاقلا وبعض الفقهاء .

                احتج الأول : حكم القياس حكم أصله ; فخص العام .

                الثاني : النص أصل فلا يقدم القياس الذي هو فرع عليه ، ولأن العام يفيد من الظن أكثر من القياس ، ولأن معاذا قدم السنة على القياس ، وقيل : يخص بجلي القياس دون خفيه لقوته ، وهو أولى ، ثم الجلي قياس العلة ، وقيل : ما يظهر فيه المعنى نحو : " لا يقضي القاضي وهو غضبان . . "

                والخفي : قياس الشبه ، وقال عيسى : يخص بالقياس المخصوص دون غيره . وحكي عن أبي حنيفة كما سبق .

                التالي السابق


                " الخامس " : من مخصصات العموم : " المفهوم ; لأنه دليل شرعي كالنص " ، وكما أن النص يخصص العموم كذلك المفهوم ، وذلك " كتخصيص " قوله عليه [ ص: 569 ] السلام : " في أربعين شاة شاة " ، بمفهوم قوله عليه السلام : " في سائمة الغنم الزكاة " . فإن الأول اقتضى بعمومه وجوب الزكاة في الأربعين ، سائمة كانت أو غير سائمة ، والثاني خص بمفهومه غير السائمة ; فلا زكاة فيها .



                " السادس " : من مخصصات العموم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، " كتخصيص " قوله عز وجل في الحيض : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) [ البقرة : 222 ] ، بكونه عليه السلام كان يباشر الحائض دون الفرج متزرة ، كما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأمرني فأتزر ، ثم يباشرني وأنا حائض . فإن الآية اقتضت عموم عدم القربان في الفرج وغيره ، وفعله صلى الله عليه وسلم ، خص النهي بالفرج ، وأباح القربان لما سواه .

                قوله : " ويمكن منعه حملا للقربان على نفس الوطء كناية " ، أي : يمكن منع كون هذا الفعل مخصصا لهذه الآية بأن يحمل قوله عز وجل : ( ولا تقربوهن ) ، على معنى : لا تطئوهن في الفرج ، وكنى عن ذلك بالقربان ، وهي كناية ظاهرة فيه ، وحينئذ لا عموم في الآية ; فلا تخصيص بالفعل ، بل يكون بيانا مرسلا للكناية المذكورة ، ودفعا لما يتوهم من إرادة غير الوطء .

                [ ص: 570 ] قوله : " وخصص قوم عموم : ( الزانية والزاني فاجلدوا ) [ النور : 2 ] " ، إلى آخره .

                هذا مثال آخر عند بعض الناس لتخصيص العموم بالفعل أو ما يشبه الفعل .

                وبيانه أن قوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) [ النور : 2 ] ، عام في الثيب والبكر ، فلما رجم النبي صلى الله عليه وسلم ، ماعزا ، وترك جلده ، دل على أن الجلد مختص بالبكر دون الثيب ; فكان هذا تخصيصا للنص العام بفعله عليه الصلاة والسلام أو بمعنى فعله وهو ترك الجلد . وهذه من مسائل الخلاف ، أعني أن الزاني الثيب : هل يجلد مع الرجم أم لا ؟ والصحيح من مذهبنا أنه يجلد خلافا للشافعي .



                " السابع " : من مخصصات العموم : تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ، على خلافه ، أعني : على خلاف العموم " مع قدرته على المنع " ، من خلافه ; لأن إقراره كصريح إذنه ، إذ لا يجوز له الإقرار على الخطأ لعصمته ، كما سبق في أول الكلام في السنة من أنها قول وفعل وإقرار على فعل أو ترك ، ثم إذا أقر واحدا من الأمة على خلاف العموم ، ثبت ذلك في حق غيره ، لما سبق من أن ما ثبت في حق واحد ، ثبت في حق الجميع ما لم يخص به ذلك الواحد .

                [ ص: 571 ] مثال ذلك تقديرا : لو ورد النهي عاما عن شرب الخمر ، ثم رأيناه أقر بعض الناس على نوع منها ، أو مقدار يسير ، أو على شرب النبيذ ، استدللنا بذلك على إباحة ما أقر عليه ، وهذا ذكرناه مثالا تقديريا ، وإن لم يقع منه شيء .



                - " الثامن " : من مخصصات العموم " قول الصحابي " إذا جعل حجة يقدم على القياس ; فإنه يخص به العموم ; لأن القياس يخص به العموم ; فقول الصحابي المقدم عليه أولى أن يخص به . وهذا معنى قوله : " قول الصحابي إن جعل حجة كالقياس وأولى " .

                فإن قيل : الصحابي يترك مذهبه للعموم ، كترك ابن عمر رضي الله عنهما مذهبه لحديث رافع بن خديج في المخابرة ; فغير الصحابي أولى بترك قوله للعموم ، وإذا وجب ترك قول الصحابي للعموم ، لم يجز أن يخص به العموم ; لأن التخصيص به ينافي تركه .

                وأجاب الشيخ أبو محمد بأن ابن عمر رضي الله عنهما لم يترك مذهبه للعموم ، بل لنص عارضه .

                قلت : فيكون العموم مؤكدا لذلك النص ; فأما من لا يرى قول الصحابي حجة ; فلا يجيز تخصيص العام به ; لأن التخصيص تقديم الخاص ، وما ليس بحجة لا يجوز تقديمه .



                - " التاسع " : من مخصصات العموم " قياس النص الخاص يقدم على عموم نص آخر " ; فيخص به " عند أبي بكر والقاضي " من أصحابنا ، " وهو قول [ ص: 572 ] الشافعي وجماعة من الفقهاء والمتكلمين ، خلافا لأبي إسحاق بن شاقلا وبعض الفقهاء " ، حيث قالوا : لا يخص العموم بقياس النص الخاص .

                مثال ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال : ( وأحل الله البيع ) [ البقرة : 275 ] ، وهو عام في جواز كل بيع ، ثم ورد النص بتحريم الربا في البر بعلة الكيل ، وقياسه تحريم الربا في الأرز ; فهو قياس نص خاص يخص به عموم إحلال البيع . وكذا تحريم النبيذ بعلة الإسكار قياسا على الخمر ، هو قياس نص خاص ; فيخص به عموم قوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ) [ الأنعام : 145 ] الآية .

                قوله : " الأول " ، أي : احتج الأول وهو القائل بتخصيص العموم بقياس النص الخاص ، بأن " حكم القياس حكم أصله " ، الذي هو النص الخاص ، وكما أن النص الخاص يخص العموم ; فكذا قياسه الذي حكمه حكمه ; فكما أن النص على تحريم الربا في البر خص عموم البيع ; فكذا قياس البر في الأرز ، وكما أن النص على تحريم الخمر خص عموم : ( أجد في ما أوحي إلي محرما ) [ ص: 573 ] [ الأنعام : 145 ] ; فكذا قياس الخمر على النبيذ يكون مخصصا له لأنه مساو له كأصله الذي هو النص .

                قوله : " الثاني " ، أي : احتج الثاني وهو القائل بأن العام لا يخص بقياس النص الخاص بوجوه :

                أحدها : أن النص الذي هو العام أصل ، والقياس فرع ; فلو خص العام به ، لقدم الفرع على الأصل ، وهو غير جائز .

                الوجه الثاني : أن العام يفيد من الظن أكثر مما يفيده القياس منه ، لما مر في تقديم خبر الواحد على القياس ، وحينئذ لا يجوز تقديم الأقل فائدة على الأكثر فائدة .

                الوجه الثالث : أن معاذا في حديثه المشهور قدم السنة على القياس ، وهو عام فيما إذا كان القياس أخص أو أعم ، وذلك يقتضي تقديم العام على قياس النص الخاص ; فلا يخص به النص العام .

                قلت : ويجاب عن هذه الوجوه :

                أما عن الأول ; فبأن الممتنع إنما هو تقديم الفرع على أصله ، والقياس هاهنا ليس فرعا للعام ، بل للنص الخاص الذي هو أقوى من العام ، ولا يمتنع أن يكون فرع الأصل القوي أقوى من الأصل الضعيف .

                وأما عن الثاني ; فلا نسلم أن العام يفيد من الظن أكثر مما يفيده القياس ، وإنما ذلك في النص الخاص مع القياس ، كحديث نقض الوضوء [ ص: 574 ] بمس الذكر ، وأكل لحم الجزور ، والكلام في تقديم خبر الواحد على القياس في ذلك لا فيما نحن فيه الآن .

                وأما عن الثالث ; فبأن حديث معاذ إن ثبت ; فاستدلالكم بعمومه ; فهو إثبات لتقديم العام بالعام ، وهو مدرك ضعيف ، ثم هو محمول على ما إذا كان القياس مساويا للسنة في العموم والخصوص بما ذكرناه من الدليل . أما إذا كان القياس أخص ، كان الظن الحاصل منه أغلب فيقدم ; لأن تقديم الأقوى متعين كالعمومين أو القياسين إذا تقابلا .

                قوله : " وقيل : يخص " أي : قال بعض الأصوليين : " يخص العام بجلي القياس دون خفيه " ، أي : بالقياس الجلي ، لقوته دون القياس الخفي لضعفه ، " وهو أولى " لما سبق من تقديم أقوى الظنين .

                قوله : " ثم الجلي قياس العلة " ، إلى آخره ، أي : القائلون بتخصيص العام بالقياس الجلي دون الخفي اختلفوا في الجلي ما هو ؟

                فقال بعضهم : هو قياس العلة ، وهو إثبات الحكم في الفرع بعلة الأصل ، كقياس الأمة على العبد في سراية العتق ، والنبيذ على الخمر في التحريم ، ونحوه .

                وقيل : " ما يظهر فيه المعنى ، نحو " قوله عليه السلام : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " ; لأن المعنى المقتضي للمنع ظاهر فيه ، وهو اضطراب الخاطر ، [ ص: 575 ] وضعف إدراك الحكم لقوة الغضب ; فيلحق به ما وجد فيه ذلك المعنى من خوف أو ألم ونحوه .

                وقيل : ما ينقض القضاء بخلافه .

                قلت : هذا دور ; لأن القضاء ينقض لمخالفة القياس الجلي ، فإذا عرفنا الجلي بما ينقض القضاء بخلافه ، لزم الدور ، " والخفي قياس الشبه " وسيأتي بيان ذلك في القياس إن شاء الله تعالى .

                " وقال عيسى ، - هو ابن أبان - : يخص بالقياس المخصوص دون غيره " ، أي : إنما يخص بالقياس العام المخصوص دون العام الذي ليس بمخصوص ، " وحكي - هذا - عن أبي حنيفة ، كما سبق " من قوله في تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، ووجهه : أن العام المخصوص يضعف ، ولهذا وقع الخلاف في كونه حجة أو حقيقة . وحينئذ يقوى القياس على تخصيصه بخلاف الباقي على عمومه .




                الخدمات العلمية