الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 266 ] ثم هنا مسائل :

                الأولى : وقع النزاع في جواز النسخ عقلا وشرعا ، وفي وقوعه ، والكل ثابت .

                أما الجواز العقلي ، خلافا لبعض اليهود ; فدليله ما سبق من جواز دوران الحكم مع المصالح ، وجودا وعدما ، كغذاء المريض ، وأيضا الوقوع لازم للجواز ، وقد حرم نكاح الأخوات بعد جوازه في شرع آدم ، والجمع بين الأختين بعد جوازه في شرع يعقوب ، وقوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، وهو حقيقة النسخ .

                وأما الشرعي ; فقوله تعالى : ما ننسخ من آية ، وإذا بدلنا آية مكان آية ، ونسخ الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشر ، والوصية للوالدين بآية الميراث ، وخالف أبو مسلم ، لقوله : لا يأتيه الباطل ، والنسخ إبطال ، وليس بشيء ، إذ المراد لا يلحقه الكذب ، ثم الباطل غير الإبطال .

                التالي السابق


                " ثم هنا مسائل " ، أي : لما فرغ الكلام على حد النسخ ، نذكر ههنا مسائله إن شاء الله تعالى .

                المسألة " الأولى : وقع النزاع " بين الناس في " جواز النسخ عقلا وشرعا ، وفي وقوعه " ، أي : اختلف الناس في النسخ ، والخلاف ; إما في جوازه ، أو في وقوعه .

                والخلاف في جوازه ; إما عقلا ، أو شرعا ، وقد اتفق أهل الشرائع على جوازه عقلا ، ووقوعه سمعا ، إلا الشمعونية من اليهود ; فإنهم أنكروا الأمرين ، وأما العنانية منهم ، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين ; فإنهم أنكروا جواز النسخ [ ص: 267 ] شرعا ، لا عقلا .

                قوله : " والكل ثابت " ، أي : جواز النسخ عقلا وشرعا ووقوعه .

                " أما الجواز العقلي - خلافا لبعض اليهود " ، وهم الشمعونية الذين ذكرناهم - " فدليله " ، أي : فدليل الجواز العقلي ، من وجهين :

                أحدهما : " ما سبق من جواز دوران الحكم مع المصالح وجودا وعدما " ، أي : يجوز وجود الحكم لوجود المصلحة فيه ، وينتفي لانتفائها كغذاء المريض فإنه يختلف في كيفيته ، وكميته ، وزمانه ، لاختلاف المصالح في ذلك ، حتى إن الطبيب ينهاه اليوم عما يأمره به غدا ، ويأمره بتقليل الغذاء وتلطيفه اليوم ، ويأمره بتكثيره وتغليظه غدا ، لما ذكرناه ; فكذلك الحكم الشرعي ، يجوز أن يكون فيه مصلحة في وقت ; فيؤمر به تحصيلا لها ، ويكون فيه مفسدة في وقت ; فينهى عنه نفيا لها .

                الوجه الثاني : أن " الوقوع لازم للجواز " ، كذا وقع في " المختصر " ، والصواب أن الجواز لازم للوقوع ; لأن لازم الشيء هو ما يلزم من انتفائه انتفاء ذلك الشيء ، [ ص: 268 ] والجواز هو الذي يلزم من انتفائه انتفاء الوقوع ; لأن الوقوع يلزم من انتفائه انتفاء الجواز ، إذ كل واقع جائز ، وليس كل جائز واقعا .

                وتصحيح عبارة " المختصر " أن يقال : الوقوع ملزوم أو مستلزم للجواز ، وهذا هو كمال المراد بها ، وإذا ثبت أن الجواز لازم للوقوع ، وقد وقع النسخ ; فيدل على جوازه عقلا ، دلالة الملزوم على اللازم . وبيان وقوعه بصور :

                إحداهن : أن نكاح الأخوات ، أي : نكاح الرجل أخته ، حرم في شرع موسى عليه السلام أو قبله ، بعد أن كان جائزا في شرع آدم .

                الثانية : أن الجمع بين الأختين حرم بعد أن كان جائزا في شرع يعقوب ، ولذلك جمع بين بنتي خاله راحيل وليا .

                الثالثة : قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم [ النساء : 160 ] ، وتحريم الشيء بعد تحليله : هو حقيقة النسخ ، وحيث وقعت هذه الصور وغيرها من النسخ ، دل على جوازه عقلا بالضرورة ، هذا بيان الجواز العقلي .

                قوله : " وأما الشرعي " ، أي : وأما الجواز الشرعي ; فيدل عليه وجوه :

                أحدها : قوله سبحانه وتعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ البقرة : 107 ] [ ص: 269 ] ، وهو نص في وقوع النسخ . وقد سبق معنى الآية في تعريف النسخ لغة من كلام الجوهري .

                الثاني : قوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل [ النحل : 101 ] ، وتبديل حكم الآية ، أو لفظها بغيره ، هو النسخ .

                الثالث : نسخ الاعتداد بالحول به ، أي : بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر ، وذلك أن المتوفى عنها في صدر الإسلام كانت تعتد حولا ، عملا بقوله سبحانه وتعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج [ البقرة : 240 ] ، أي : متعوهن من تركة أزواجهن متاعا ، أي : أنفقوا عليهن إلى الحول ما لم يخرجن من بيوت أزواجهن ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة : 235 ] ، وهذا ناسخ مؤخر في التنزيل ، مقدم في التلاوة .

                الرابع : نسخ الوصية للوالدين بآية الميراث ، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين [ البقرة : 180 ] الآية ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] [ ص: 270 ] الآيات في سورة النساء ; فإنه فصل فيها حكم الميراث ، ونسخ به وجوب الوصية للأقارب ، أو إنها نسخت بقوله عليه السلام : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ; فلا وصية لوارث . وعلى كل تقدير ; فالمقصود حاصل ، وهو جواز النسخ شرعا .

                قوله : " وخالف أبو مسلم " يعني : الأصفهاني ، في جواز النسخ شرعا كما حكيناه ، أي : أن الذي دل على امتناع النسخ هو الشرع ، لا العقل ، " لقوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه [ فصلت : 42 ] ، والنسخ إبطال " .

                [ ص: 271 ] قوله : " وليس بشيء " ، يعني : ما احتج به أبو مسلم لا حجة فيه ; لأن المراد من قوله تعالى : لا يأتيه الباطل ، أي : لا يأتيه الكذب ، ( من بين يديه ) يعني الكتب السالفة لا تكذبه ، بل هي موافقة له ، ( ولا من خلفه ) ، أي : من بعد نزوله وانقضاء عصر النبوة ، بأن يقع بعض ما وعد به من المخبرات ، على خلاف ما تضمنه من الإخبارات .

                وقال قتادة : معناه : أن الشيطان لا يستطيع أن يبطل منه حقا ، ولا يحق منه باطلا . وكذلك قال قتادة أيضا ، وثابت البناني في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] ، قال : حفظه الله من أن يزيد الشيطان فيه باطلا ، أو يبطل منه حقا ، وهذا ليس من إبطال النسخ في شيء ، ولا يدل عليه .

                قوله : " ثم الباطل غير الإبطال " ، هذا رد آخر على أبي مسلم ، وهو أن الآية إنما دلت على نفي الباطل عن القرآن ، لا على نفي الإبطال ، والنسخ إبطال للحكم ، لا باطل لاحق بالقرآن ، ولله سبحانه وتعالى أن يبطل من أحكام شرعه ما شاء ، ويثبت ما شاء ; فما نفته الآية غير ما أثبتناه .

                ومعنى إبطال الحكم بالنسخ : أن ما كان مشروعا صار غير مشروع . ثم إن أبا مسلم يدعي امتناع النسخ شرعا دعوى عامة ، والآية التي احتج بها ، إنما تدل - لو دلت - على امتناع النسخ في القرآن خاصة ، والدعوى العامة لا تثبت بالدليل الخاص .

                ثم هو محجوج بإجماع الأمة على نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، لما قبلها من الشرائع ، مع أنها شرائع حق صحيحة ، لا يأتيها الباطل . فجوابه عنها هو جوابنا عن لحوق النسخ للقرآن ، غير أن أبا مسلم يجعل كل ما سماه غيره نسخا ، من باب انتهاء [ ص: 272 ] الحكم بانتهاء مدته ووجود غايته ، لا من باب ارتفاعه بورود مضاده ; فهو معنى قول بعض الأصوليين : إن النسخ بيان انتهاء مدة الحكم . ويعود النزاع هنا إلى النزاع في تعريف النسخ بالرفع ، أو بيان انتهاء المدة ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية